الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

الحتمية واللاحتمية في فلسفة العلم




الحتمية واللاحتمية في فلسفة العلم عند.. كارل بوبر
د.حسن حسين صديق

المقدمة:
جرى جدلا كبيرا بين الفلاسفة حول موضوع العلاقة بين العلم والميتافيزيقا , لقد اكد كارل بوبر بأن للتصورات الميتافيزيقية دور في بناء العلم والنظرية العلمية, واعتبر الميتافيزيقا ضرورية في طرحها لتصورات قد تناسب حلاً للمشكلات العلمية. وقد حلت هذا الوعي « اهمية النظريات او التصورات الميتافيزية» في بناء النظرية العلمية، بعد ان حدثت تغيرات سريعة وكبيرة في مجال العلم ونظرياته وتفسيراته للطبيعة والكون، هذه التغيرات نبعت من ظهور نظريتين علميتين في القرن العشرين، غيرت معها كل فروع المعرفة والفكر، هما، « نظرية النسبية» و « نظرية الكوانتم». في الماضي كان الفلاسفة والعلماء ينظرون الى الكون والطبيعة نظرة استقرائية، وكان من نتيجة ذلك بزوغ الايمان بالنظرية الحتمية في تفسير وتنبوء الاحداث في الكون. هذه النظرية تنص على وجوب حدوث الظاهرة اذا ما عرفنا بعض تفاصليها في الحاضر، فاذا ما حدث او ظهرت تلك التفاصيل سوف تقع نفس الظاهرة او الحدث. هذه النظرة دفعت بالعلماء من جهة والفلاسفة من جهة اخرى، الى قراءة المستقبل على غرار الماضي او الاصح قرءاة الحاضر والتنبؤء بالمستقبل على غرار الماضي. لكن من نظريتا النسبية والكوانتم تغير كل شي بين ليلة وضحاها، بدأت الفوضى تعم نظرياتهم وفرضياتهم، لم يأتي المستقبل منسجماً مع تصوراتهم الحتمية، مما دفعهم الى البحث عن نظريات اخرى تنسجم مع الواقع، فكانت اللاحتمية او الاحتمالية هي النظرية القادرة على تجاوز حالات الفوضى في مجالات العلم والفلسفة. وقد اشاد بوبر بدور اللاحتمية كنظرية ميتافيزيقية في بناء وتطور العلم ونظرياته.
لقد ركز بوبر على نظريات الحتمية واللاحتمية كنظريتين ميتافيزيقتين , واكد على دورهما في بناء النظرية العلمية, فالتصور الحتمي للعالم مبني على اساس ميتافيزيقي الذي يؤكد بأننا نستطيع ان نتنبأ بأي وقت تقع الحوادث. حيث تناول بوبر بالنقد هذه النظرية, وأيد بدلاً عنه النظرية اللاحتمية.

أهمية البحث:
تكمن اهمية هذا البحث في ضرورة تعدد الرؤى الفلسفية لقراءة الواقع، فبوبر يبين لنا ذلك، فلابد للباحث العلمي والفلسفي ان يعلم بان لتلك النظريات دور مهم في تقديم تصورات متعددة عن الواقع ونحن نعيش في زمن العلم وتغيراته السريعة، لذا علينا ان نقرأ الواقع باكثر من منظور سواء كان ذلك قراءة حتمية.استقرائية او احمتالية فرضية.
اما المنهج المستخدم في هذه الدراسة: فهي منهج التحليل والنقد في عرض تصورات كارل بوبر حول موضوعات دقيقة في مجال الفيزياء والميتافيزيقا. حيث جاءت دراستنا في مقدمة ومبحثين مشفوعا بالخاتمة. تناولنا في المبحث الاول الحتمية كنظرية ميتافيزيقية ودورها في بناء النظرية العلمية وموقف بوبر من تلك النظرية.تطرق بوبر الى الحتمية العلمية والميتافيزيقية ناقدا كلا منهما.
وتناولنا في المبحث الثاني اللاحتمية كنظرية ميتافيزيقية من وجهة نظر بوبر ومدى اهميتها في الدراسات العلمية والتصورات الفلسفية.


المبحث الأول:. الحتمية كنظرية ميتافيزيقية وموقف بوبر منها:
تعد مشكلة الحتمية من المشكلات الفلسفية في مجال العلم والميتافيزيقا، حيث يتعلق بموضوع التنبؤ الدقيق بحالات المستقبل على غرار الماضي، أي هل يمكن تحديد المستقبل على أساس الماضي والحاضر؟ ففي العلم مسلمة ضمنية لجميع القوانين العلمية، وهي ثمة حتمية تقتضي أن تأتي الظواهر في المستقبل على نفس النسق الذي جاءت عليه في الماضي والحاضر(1). أما الحتمية في المجال الميتافيزيقي فتنطوي على التنبؤ بالمستقبل أيضاً. فالتنبؤ خطوة أساسية في كل بحث ولولاه لما تقدم العلم، لذا تعد الحتمية القاعدة الاساسية التي لايمكن أن يتم أي بحث إلا بها. وعندما نتحدث عن الحتمية في مجال العلوم الطبيعية فإننا نعني بها إمكان التنبؤ بالحالات المستقبلية إستناداً إلى الحالة الحاضرة(2). وقد ذهب « هنري بوانكاريه « إلى القول بإن منشأ مبدأ الحتمية هو علم الفلك. فالنظام الدقيق والثابت الذي تتحرك به الكواكب في أفلاكها حول نفسها وحول الشمس، هو الذي أوحى للانسان منذ بداية الخليقة بفكرة النظام.أي أن فكرة الحتمية في التفكير العلمي الحديث مرتبطة بفكرة المسار الثابت.أي أن كل شي متحرك بموضعه المكاني وسرعته فاذا عرفنا موضع ذلك الشي والسرعة التي يتحرك بها وأتجاه الحركة،أمكننا التنبؤ بنوع من الحتمية المطلقة أين سيكون ذلك الشي في وقت معين أو متى سيكون في موضع معين.وطالما أن كل شي في الكون يتحرك. إذن فالكون كله تحكمه حتمية صارمة. وهي الفكرة التي لعبت الدور الرئيسي في الحتمية الالية المنبثقة عن الفيزياء النيوتونية، بل إن الايمان بالحتمية تجاوز مجرد التنبؤ الدقيق، ليصبح أداة الكشف العلمي(3).
نفهم مما عرضناه أن الحتمية مبدأ ميتافيزيقي يؤمن به العلماء بإن في الكون نظام كلي شمولي يتحكم في ظواهر، فإذا ما عرفنا قوانينه، تمكنا من التنبؤ بما يحدث في المستقبل وهذا دفع بالعلماء أن يعتمدوا عليها حتى في الاكتشافات العلمية.لذا لايمكن لنا القول بإن قرارات الحتمية فارغة من المعنى في حين نقر من جهة أخرى بان العلماء أعتمدوا عليها في إكتشافاتهم وتنبؤاتهم لإننا نقع في التناقض المنطقي.بل علينا الاعتراف بإن لتلك المبادئ الدور الفعال في بناء العلم والنظرية. من هنا نجد أن موقف فلاسفة العلم من الوضعين الذي يعتبر أن مبدأ الحتمية مصادرة براجماتية أو اداتية، أو فرضاً شديد العمومية ولكن. نسلم به من أجل قيام العلم، دون أن نبرهن عليه، وطالما البرهان مستحيل. ويرفضون التفسيرات الاخرى إما لتناقضها المنطقي أو لإستنادها إلى ثوابت ميتافيزيقية (4).
أما بوبر فيرى أن : « فكرة الحتمية الكلاسيكية أو حتمية العالم الاول، هي فكرة قديمة جداً من الذي وضعها» لابلاس» على أساس ميكانيكا نيوتن. ويمكن القول أن نظرية لابلاس في الحتمية هي : نفترض لو تعطى لنا بصورة مضبوطة مواقف وسرعات جميع الجزيئات المادية عن جزء من العالم في لحظة من الزمن، لتمكنا بمساعدة الميكانيكا النيوتونية من حيث المبدأ، معرفة كل ما حدث من الوقائع في الماضي، وجميع ما سوف يحدث في المستقبل، وتشتمل هذه المعرفة الحتمية على جميع الحركات البدنية للرجال، والكلمات المنطوقة أو المكتوبة، وجميع الموسيقى التي سوف تكون مكتوبة من أي وقت مضى. كل هذا يحدث إذا كان مبرمجاً مع قوانين نيوتن للحركة(5)» . وقد عبر « بيير سيمون لابلاس» عن الحتمية في كتابه « دراسات فلسفية حول الاحتمالات» بقوله :» علينا إذن أن ننظر إلى الحالة الراهنة للكون على أنها نتيجة لحالته السابقة، وسبب لحالته القادمة. والفكر الذي يعرف في لحظة معينة القوى المحركة للطبيعة كلها.وحالة كل من الكائنات التي تتألف منها، وإذا كان هذا الفكر واسعاً إلى الحد الذي يسمح بتحليل المعطيات ، وتشمل حركات الاجسام الموجودة في الكون، كبيرها وصغيرها في صياغة واحدة، فإن هذا الفكر لن يجد أي شي غير حتمي، وسيكون المستقبل والماضي ماثلين أمام عينه»(6). والحقيقة أن تفكير «لابلاس» كان ضمن إطار الميتافيزيقا المادية التي كانت شائعة في نهاية القرن الثامن عشر. حيث كان لابلاس مؤمناً بإمكان معرفة القوانين الرياضية للكون ، كان يؤكد أن فكراً فائقاً نظرياً تماماً ذا قدرات إدراكية لامتناهية يستطيع حساب تأثيرات قوانين الطبيعة كلها. وهذا الفكر لا يملك صفات خارقة، ويعترف لابلاس في الوقت نفسه أن الانسان سيبقى دائماً بعيداً بعداً لامتناهياً عن هذا الفكر الفائق(7).

ويعتبر بوبر الموقف الحتمي في الاصل موقفاً دينياً متصلاً بفكرة القدرة الالهية الكلية والعلم الكلي، الممنوحة للوجود الذي ليس له فقط القدرة على تقدير وتحديد المستقبل بل يعرفه دوماً، وهذا يؤدي إلى الاعتقاد أن أي حادثة قدرت مسبقاً وفي هذا يقول بوبر :» فكرة الحتمية هي فكرة ذات أصل ديني ، وأن وجدت هناك ديانات تعتقد في اللاحتمية التي ترى أن على الاقل بعض الوقائع أو الاحداث ليست مقدرة سلفاً، الحتمية الدينية وثيقة الصلة بأفكار القدرة الكلية  على تحديد المستقبل كله، والعلم الالهي الكلي بكل شي ويستلزم هذا أن المستقبل منذ الحاضر معروف عند الله وبالنتيجة يمكن معرفته قبلاً، وهو محدد نهائياً «(8). ولكن موقف بوبر واضح من الحتمية اللابلاسية ويصفها بالغير مقنعة، لان معرفة كل تفاصيل الاحداث الكونية يحتاج إلى قدرة خارقة يمتلكها الانسان كي يتجاوز كل الحدود الكونية وهذا محال، ومن هذا المنطلق يقول بوبر:» أنا شخصياً أجد وجهة نظر لابلاس في الحتمية غير مقنعة وغير جذابة، وان حجته مشكوك فيه، لان معرفة كل تلك الاحداث يحتاج إلى حاسبة تمتلك القدرة على تجاوز هذا الكون المعقد».إلا أن لابلاس توصل إلى إستنتاجه من فكرته عن عالم مغلق وحتمي وسببي.ويشير بوبر إلى إمكانية التعديل في وجهة نظره عن الحتمية بناءاً على إنهيار بعض المحاولات للحد من تجارب ماكسويل في الكهرومغناطيسية لميكانيكا نيوتن من خلال النموذج الميكانيكي للاثير»(9).
والسبب الذي دفع بلابلاس الى الاعتقاد بالحتمية يكمن في تصوره عن العالم، حيث يتكون العالم من جسيمات وفقاً للديناميكا النيوتونية، وأنه في لحظة واحدة من الوقت نكون على معرفة كاملة ودقيقة للحالة الاولية للنظام العالمي والذي ينبغي أن يكون كافياً لحسم معرفتها في أي لحظة أخرى. ويمكن تفسير الفكرة العامة عن الحتمية بمساعدة فليماً سينمائياً يظهر فيه دول العالم متعاقبة مع الواحدة تلو الأخرى، وسيظهر في هذا الفيلم أن المستقبل يكون محدداً وثابتاً قياساً لثبات الماضي. من هنا فإن المستقبل يكون ثابتاً، من حيث المبدأ، وهذه المعرفة ليس مجرد تخمين، بل هي معرفة يقينية (10).وبالفعل إن المستقبل هو معروف من قبل خالق العالم وهذا هو أصل التصور الديني للحتمية الذي عوض فيه شيطان لابلاس الاله الكامل القدرة والعلم في الحتمية الدينية، لتصبح القوانين الطبيعية في عقل هذا العالم، فوق العادة تعبيراً صادقاً عن الحالة الفعلية للعالم(11).
ولكن معرفة المستقبل من خلال الماضي والحاضر من خلال معرفتنا بالنظام العام للعالم أمر لا يقبله منطق العقل لاننا نحتاج إلى إمكانية هائلة وقدرات كبيرة حتى نستطيع الالمام بكل تلك الاحداث، يرفض بوبر النظرة الحتمية في جميع أبعادها التاريخية والاجتماعية والعلمية ويقدم برهانه في هذا بقوله :» إن المتنبئ العلمي سواء كان عالماً من البشر أو آلة حاسبة. لايمكنه، بالطرق العلمية،أن يتنبأ بما سيصل اليه من نتائج في المستقبل. والمحاولات التي يبذلها في التنبؤ لا يمكن أن تبلغ إلى نتيجتها إلا بعد حدوث هذه النتيجة، أي بعد أن يكون الوقت قد فات على التنبؤ. وبعبارة أخرى، لا تصل هذه المحاولات إلى نتيجتها إلا بعد أن يكون التنبؤ قد أستحال إلى مجرد تقرير لما وقع في الماضي»(12).

إذن يمكن أن نحدد معنى الحتمية العلمية على النحو التالي كما يدعي بوبر:» إن مذهب الحتمية العلمية هو المذهب الذي يمكن من خلاله توقع حالة أي نظام مادي مغلق في أي لحظة معينة من الزمن في المستقبل، وحتى من داخل النظام، يمكن دائماً بالاشتراك مع الشروط الاولية من إستنتاج نظريات التنبؤ بدرجة من الدقة، لان مهمة التنبؤ تتطلب درجة من الدقة ، وهذا هو التعريف الاضعف لصياغة الافكار في الحتمية العلمية(13).إلا أن الحتمية العلمية تشترط القدرة على التنبؤ بكل حادثة بدرجة مرغوبة من الدقة شريطة أن تكون معطاة شروط أولية دقيقة بما فيه الكفاية، لكن ماذا تعني كلمة « بما فيه الكفاية» إنه يتوجب علينا تفسير ما المقصود بشروط أولية دقيقة بما فيه الكفاية بطريقة تحرمنا حتى من حق المرافعة كلما نخفق في تنبؤاتنا والقول أن الشروط الاولية المعطاة لم تكن دقيقة بما فيه الكفاية ، بعبارات أخرى فإن نظريتنا يجب عليها أن تدرك أن عدم دقة التنبؤ بنفس درجة الدقة التي نشترطها في التنبؤ فإنه يتوجب عليها أن تسمح لنا بحساب درجة دقة الشروط الاولية التي ستكتفي لإعطائنا تنبؤاً له درجة دقة مطلوبة ويسمي بوبر هذا الشرط مبدأ المسؤولية(14).
يقسم بوبر الوقائع في إطار الحتمية إلى نمطين: أحداث ووقائع يمكن التنبؤ بها مثل تعاقب الفصول أو دورات الساعة، وإلى أحداث ووقائع لا يمكن التنبؤ بها مثل حركة السحب . يقول بوبر :» إن كانت فكرة الحتمية العلمية تبدو من وجهة نظر تاريخية نوعاً من التجربة الحتمية الدينية بمصطلحات علماء طبيعة وعقلانيين، فمن الممكن إعتبار الحتمية العلمية، في منظور أخر يمكن على سبيل المثال، تقديمها كنتيجة لنقد دقيق لصورة العالم المأخوذة عن الحس المشترك، فحسب هذه الصورة، فكل الاحداث تدخل في واحد من الفئتيين: الاحداث القابلة للتنبؤ مثل دورة الفصول، والاحداث غير قابلة للتنبؤ مثل تقلبات الزمان والجو»  (15).فطبقاً لقوانين نيوتن الميكانيكية ، فإن العالم إفتراض متمثلا في تفاعل جزيئات، حيث أن معرفة كلية.ودقيقة لحالة العالم في أية لحظة ستكون كافية لإستنباط حالته في أية لحظة أخرى ومعرفة كهذه عند بوبر تتجاوز قدرة الانسان ولم يلجأ « لابلاس» إلى القدرة الالهية، بل لجأ إلى تخيل شيطان أو إلى نوع من العالم فوق العادة. وبعد هذا التغيير الحاسم فقدت الحتمية مظهرها الديني المذهبي وقبلت كحقيقة علمية.وهكذا بإدخال «لابلاس» لعقل فوق بشري،قادراً على تحديد المجموع الكامل للشروط الاولية لنسق العالم أو لنظام العالم في لحظة ما كيفما كان الحال شريطة معرفة هذه الشروط الاولية وكذلك قوانين الطبيعة ، فالشيطان سيكون بمقدوره حسب لابلاس إستنباط كل الحالات المستقبلية للعالم شريطة أن تكون قوانين الطبيعة معروفة، فالمستقبل سيكون متضمناً في أية لحظة من ماضيه، وهكذا فحقيقة الحتمية ستكون إذن مقامة، والسمة الاساسية لهذه الحجة هي التالية، مذهب الحتمية لم يعد فيه حقيقة لكنه أصبح حقيقة علمية (16).
ان الحتمية بالنسبة لبوبر تفتقر إلى أي أساس وذلك لانه ليس هناك كفاية لمعرفة جيدة للتنبؤ بأي تفصيل جزئي مفرد حول أي شي في العالم، لان الطابع الكلي لنظرياتنا يعرض لمشكلات من نفس النظام، فنحن بحاجة إلى الاعتقاد بإن العالم هو توليفة واحدة من الاحداث الفريدة، وذات تعقيد كبير، تعقيد ربما لانهائي، ورغم هذا فإننا نحاول وصف هذا العالم الوحيد الفريد بواسطة نظريات كلية، ويمكننا منذ اللحظة التسأول عما إذا كانت هذه النظريات هي وصف للخطوط أو السمات مثل سمة البساطة والكلية أو الكونية ليست إلا خاصية من خصائص نظرياتنا وربما خاصية لغتنا النظرية وليست خاصية العالم(17).وقد أجاب بوبر بقوله :» أعتقد أن ماهو صحيح فيما يتعلق بالبساطة ليس صحيحاً تماماً فيما يتعلق بالكلية، فإذا قلنا « كل كلب له ذيل « فإننا نؤكد بالفعل شيئاً ما عن كل الكلاب، وهكذا إن نحن أردنا إكتشاف جنس جديد من الكلاب ليس له ذيل (شبيه بقطط جزيرة Man التي ليس لها ذيل) فإنه يتوجب علينا سحب هذا التأكيد ، فالكونية هي إذن مؤكدة بواسطة نظرياتنا إنها شي نحاول إختباره والبساطة على العكس ليست مؤكدة بواسطة نظرياتنا وأن أستطعنا ذلك فإننا لا نعرف كيف نعمل على إختبارها» (18).

فالحتمية مع ذلك كان لها دوراً مهماً كمصدر لمعرفة العلماء ونظرياتهم، فهناك من العلماء من كان مقتنعاً بالحتمية مع كل تلك التغييرات التي حصلت في مجال العلوم التجريبية وقد أشار بوبر إلى ذلك :» في ضوء مناقشتنا للنسبية الخاصة، قد طلبت من أنشتاين نفسه كيف يمكن أن يكون على قناعة بالحتمية؟ وكان جوابه التالي: على الرغم من أنه في سنواتي التكوينية كنت مؤمناً بالحتمية العلمية، وفي أواخر حياتي كان إيماني بالحتمية وبصراحة هي من نوع الحتمية الدينية أو الميتافيزيقية»(19).وكان أينشتاين معروفاً بنزعته الوضعية.الاختبارية، وكان رافضاً أن يكون للميتافيزيقا حضور في نظرياته العلمية وهو مؤمن في نفس الوقت بالحتمية كمبدأ علمي تقام على ضوئه النظريات العلمية. فتصوره عن الواقع المادي كان تصوراً حتمياً لهذا طالب أن يكون لنظرياته الفيزيائية ذلك الطابع الحتمي.
نقد بوبر للحتمية العلمية:
إن الحتمية التي ينقدها ويحاربها بوبر هي حتمية لابلاس العلمية التي تقول أن حالة الكون في أية لحظة من الزمان.في المستقبل والماضي، هي محددة كلية إن كانت حالة الكون وموقعه أعطيا في لحظة ما على سبيل المثال، الحاضر، أو كقوله :» يجب علينا النظر في الحالة الحالية للكون كنتيجة لحالته السابقة وكسبب لما يستتبع،عقل في لحظة ما سيعرف كل القوى، التي بها الطبيعة تتحرك، والموقف الخاص للكائنات التي نشكلها فلا شي يكون لا يقينياً لديه، والمستقبل مثل الماضي سيكون حاضراً أمام ناظري».أو قوله أيضاً أن بنية العالم يكون فيها:» كل حادث أو واقعة يمكن التنبؤ بها عقلانياً بدرجة من الدقة، المطلوبة، شريطة أن يعطي لنا وصف دقيق كاف للاحداث أو الوقائع الماضية وكذلك قوانين الطبيعة»(20).
 هذه النظرة اللابلاسية هي نقطة إنطلاق بوبر لتوجيه نقده حول مفهوم الحتمية العلمية بالصورة التالية:.
1. عندما طرح بوبر سؤالاً حول التطور قائلاً، هل يمكن أن يكون للتطور قانون؟ هل يمكن أن يكون له قانون علمي بالمعنى الذي قصده (ت.ه.هكسلي) حيث قال :» إن الفيلسوف الفاقد الهمة هو الذي ...يشك في أن العلم سوف يحصل عاجلاً أو أجلاً... على قانون تطور الاشكال العضوية، أعني قانون النظام الثابت في تلك السلسلة العلمية الكبرى التي تتكون حلقاتها من الاشكال العضوية القديمة والحديثة...؟ حيث يقول بوبر أن الجواب على هذا السؤال ينبغي أن يكون بالنفي، وأن البحث عن قانون ل» النظام الثابت» في التطور لا يمكن ان يكون بحال من الاحوال في متناول المنهج العلمي، سواء في علم الحياة أو في علم الاجتماع». ويأتي بوبر بأمثلة عديدة في مجال البيولوجيا كي يؤكد نقده للحتمية العلمية، حيث يقول :» كذلك لا يمكن أن تسعفنا مشاهدة العملية الواحدة الفردة في التنبؤ بمستقبل تطورها.فنحن مهما بذلنا من عناية في مشاهدة نمو يرقة واحدة، فلن يساعدنا ذلك على التنبؤ بتحولها فيما بعد إلى فراشة» (21).
2.إن عملية التنبؤ بما يحدث ليس بالعمل السهل، لان مسألة التنبؤ العلمي لمعرفة الحالات الفيزيائية ليس بالعمل الميسور، لإننا لا نستطيع الاحاطة بكل التفصيلات عن تلك الحالات.يقول بوبر :» لقد أثبتنا أن التنبؤ حالة مستحيلة حتى لو كان مبنياً على دمج التوقعات لشيطان لابلاس التي تتحرك على أبسط المبادئ الميكانيكية والذي يمثل مؤشراً لنظام حتمي مادي دون جدل، ويمكن لنا أن نستخدم نتائج العلم التي توصلت اليها النظريات لدحض الحتمية العلمية وهي تتعلق بمسألة نجاح العلم. لان تطبيق أسلوب التنبؤ العلمي لا يتم دون أن تتأثر تلك العملية بالجانب الذاتي لنا، فالحتمية العلمية من حيث المبدأ تتطلب منا أن نكون قادرين على التنبؤ، وأن نختار كل شي في عالمنا بدرجة من الدقة، إلا أننا جزء من موجودات عالمنا هذا، فاستحالة التنبؤ الدقيق هو دحض لهذه العقيدة والتي هي نتيجة لإستحالة التنبؤ الذاتي. فمن خلال إستخدام المنطق وحده يمكن تفنيدها في الواقع، حيث تبين أن عقيدة الحتمية العلمية هي تناقض ذاتي. وبالتالي لاشيء يمكن أن يدعم الحتمية العلمية، وعدم اللجوء إلى ظاهرة العلم لحسم الموضوع، يمكن أن يدعم شكل أخر من أشكال الحتمية(22).
ولكن هناك سؤال مهم جداً يتبادر إلى الذهن فيما يتعلق بالموقف النقدي لبوبر من الحتمية العلمية الا وهو، هل كان بوبر مقتنعاً بإنه يستطيع دحض الحتمية العلمية؟ أم كان يأمل في أن يدحض الحتمية العلمية؟
وقد أجاب بوبر على هذا السؤال بقوله:» موقفي من هذه الانتقادات هو أن يخطئ وجهة نظري. لا أريد دحض الحتمية، وعلى ما أعتقد لا يمكن دحضها، أتمنى دحض ما دعيته الحتمية العلمية. لقد دحضت إشارات الاخرين الى النجاح الفعلي للتنبؤ العلمي والذين يؤكدون على ان هذا النجاح هو ما يبرر أن باستطاعتنا الافتراض، من حيث المبدأ، تحسين التنبؤ وجعله دقيقا لدينا. وبعبارة أخرى، أتمنى أن لا تدحض فقط الحتمية العلمية، بل أن تدحض أيضاً أراء الذين يقولون بإن للحتمية ما يبررها من خلال الخبرة، وأنها ليس أكثر من مجرد إعطاء المشروعية لها. لقد دحضت أكثر حجة مهمة بالنسبة للحتمية التي تبين أنها لم تعقد جرعة في عالم الحتمية. من الواضح أن هذه الحجة لابد، من خلال تصحيحها، أن تكون متوافقة مع غيرها من أشكال الحتمية»(23). ويقول أيضاً :» إن الطريقة التي دحضت بها الحتمية العلمية يبدو لي للغاية مثيرة للاهتمام. ليس فقط بأنها تظهر أننا لا يمكن أن نحل محل قرارتنا الخاصة حول أعمالنا في مستقبل التوقعات العلمية، بل يظهر أيضاً أن الحجة القاطعة للاحتمية هو وجود المعرفة العقلية نفسها. نحن أحرار، ولسنا موضوعاً للصدفة والقوانين الطبيعية الصارمة، ولكن لأن ترشيد التقدمية في العالم، في محاولة للقبض على العالم في مرمى المعرفة له حدود، في أي لحظة، في نمو المعرفة ذاتها، بطبيعة الحال، هو أيضاً عملية تنتمي الى العالم»(24).

بهذه الصورة وجدنا أن بوبر عرض مفهوم الحتمية العلمية عند لابلاس كنظرية ميتافيزيقية وكان لها تاثيرها في تطوير العلم وبناؤه عبر التاريخ وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون علماً، بل حاول بوبر ان يثبت فرضيته حول الدور الفعال للتصورات والنظريات الميتافيزيقية في بناء العلم والنظرية العلمية .

ثانياً: الحتمية الميتافيزيقية:
يمكن للمرء أن يلاحظ ببساطة أن الميتافيزيقا هو الموقف الذي تولد الواقعية، ويمكن ان نلخص العناصر الاساسية للميتافيزيقا في مجال المعرفة ب:
1.قبول الطلبات للحصول على التفسيرات التي يمكن ملاحظتها بشأن الامور الاساسية.
2.محاولة للرد على مثل هذه المطالب من خلال المضاربة حول الامور الغير قابلة للرصد. (25).
فإذا كانت الميتافيزيقا هي ذلك الموقف لمعرفة الوقائع من منطلق القدرة على التنبؤ من خلال توقعاتنا المبنيىة على النظريات الميتافيزيقية، لابد أن يكون هناك نسخة من تلك الحتمية تسمى ب» الحتمية الميتافيزيقية» ، فتكون الاحداث أو الوقائع طبقاً لها محددة مسبقاً، وغير قابلة للتغاير بحيث أن المستقبل لا يمكن تعديله أكثر من الماضي المثبت الذي لا يمكن تغييره أيضاً.وهذه النسخة الميتافيزيقية للحتمية بمعيار التمييز البوبري هي طبعاً نظرية غير قابلة للتكذيب بالفعل حتى لو أن العالم يفاجئنا في كل لحظة فإن المستقبل سيكون محدداً مسبقاً وقابلاً للتنبؤ بالنسبة للذين هم قادرون على قراءة كتاب القدر أو المصير(26).
لهذا يقول بوبر :» وهكذا فإن الحتمية الميتافيزيقية بسبب ضعفها هي متضمنة كذلك بواسطة الحتمية الدينية أكثر من الحتمية العلمية ويمكن وصفها كما لو كانت لا تحتوي إلا على ماهو مشترك لمختلف المذاهب الحتمية إنها غير قابلة للتفنيد بسبب ضعفها على وجه الدقة وهذا لا يعني ألا تكون هناك حجج ضدها أو لصالحها(27). إلا أن للحتمية الميتافيزيقية أساس يستمد منه حجته، وأساسها إما ديني أو مبني على الحتمية العلمية ولكن وجدنا ضعف الحتمية العلمية في قرارات وإنتقادات بوبر لها، وهذا يعني أيضاً أن الحتمية الميتافيزيقية ليس بمأمن عن تلك الانتقادات.واشار الى ذلك بقوله :» أستندت الحجة الرئيسية لصالح الحتمية الميتافيزيقية في الماضي إما على أساس ديني أو بناءاً على الايمان بالحتمية العلمية. ولدى بصورة غير مباشرة ،أن الحتمية الميتافيزيقية قوضت أيضاً. وعلاوة على ذلك، فإن الحجة القائلة بإن الحتمية يجب أن تحل عبـئ الاثبات لا تنطبق فقط على الحتمية العلمية بل على نسختها الميتافيزيقية أيضاً»(28). وقد عرض تصورات إينشتاين في هذا المجال بإنها مبنية على الحتمية الميتافيزيقية، لان حجج بوبر ضد الحتمية العلمية حتى لو كانت صحيحة، فإنها لن تهز إيماني بالحتمية الميتافيزيقية عندي، من هنا حاول بوبر شن هجوم مباشر على الحتمية الميتافيزيقية بسبب موقف أنيشتاين منها. حيث عبر بوبر عنها بقوله:» لقد حاولت في المرة الاولى وصف الحتمية الميتافيزيقية لإنشتاين وسميته (بارمنيدية) لإيمانه وإعتقاده بإن الكون كتلة بارمنيدية ذات أبعاد أربعة يكون فيها التغيير مجرد وهم أو شيئاً يشبهه»(29).
من هنا رفض بوبر القول الذي يذهب إلى أن حجج الحتمية الميتافيزيقية لا يقبل النقد ولا يدع مجالاً للعقلانية، بل يرى أن هذا القول ينتج عنه سوء فهم بخصوص تلك الحجج وهي:.
1.إن حجة «هالدين» لا تنطبق بالضرورة على الحتمية الدينية، حيث ساعد على صلاحياته قوى المنطق، وكثيراً ما يكون قادراً على التنبؤ نتيجة للمداولات العقلانية في الطفل مما يقلل من عقلانية الطفل في الحصول على الوهم، حتى الله ربما قد علم مسبقاً من قرارتنا العقلانية دون تدمير العقلانية الخاصة بنا ما هي إلا فكرة التحديد المسبق من قبل قوانين الطبيعة التي تتحول إلى أن تكون غير متوافقة مع العقلانية(30.
2.يدل حجة « هالدين» على ان شكلاً من اشكال الحتمية الميتافيزيقية يستلزم الطابع الوهمى لسبب من الاسباب.وهذا يخلق صعوبة فقط لإولئك الذين يعتقدون بأن الاختلاف هو بين الحجة المنطقية وبين التلقين دون تمحيص، وهذا هو القول على سبيل العقلانية، بالنسبة لهم، قد يكون من الصعب التغلب عليها، ولكن قد ترى في حجة هالدين مجرد دحض للعقلانية اكثر من الحتمية.
3.يجب ألا تفسر حجة هالدين على انها لاعقلانية في أي مذهب حتمي ، أو إستحالة مناقشته مثل أي مذهب عقلاني، بل على العكس من ذلك، يثبت ذاته من خلال وجودها، أنه من الممكن أن يجادل حول الحتمية، لانه من المؤكد هناك حجة ضدها، وبالمثل ، نجد في هذا القسم أول محاولتين للدفاع عن الحتمية الميتافيزيقية ضد الادعاء الذي يرى بإنها لا يمكن الدفاع عنها وتبين أنه توجد حجج ليس فقط ضد الحتمية الميتافيزيقية ، بل أيضاً هناك حجج في الدفاع عنها»(31).
هنا يصل بوبر من خلال عرضه لحجج هالدين في صالح الحتمية الميتافيزيقية إلى نتيجة فلسفية تعترف باستحالة دحض الحتمية الميتافيزيقية بصورة حاسمة، حيث يقول بوبر :» إن الحتمية الميتافيزيقية قابلة للجدل أو البرهنة بصورة مؤكدة. ويمكن القول أيضاً أن حجتها أو ضدها لا يمكن أن تكون حاسمة أبداً. تلك التي في صالحها يجب أن يكون حاسمة، لانه من المستحيل دحض وجود حدث محدد في العالم. ويمكن لتلك الحجج التي ضدها أن لا تكون حاسمة، فعلى سبيل المثال ، لا يمكننا دحض وجود الروح التي يحصل على المعرفة الكاملة عن العالم من دون وجود العالم»(32).

والسؤال الذي يطرح ذاته، خصوصاً بعد أن عرضنا مفهوم الحتمية الميتافيزيقية من وجهة نظر بوبر ألا وهي ، هل يمكن أن نحصل على معرفة حول العالم من دون تلك الحتمية؟. ولما كانت التصورات الميتافيزيقية قابلة للجدل والنقد العقلاني كما يدعي بوبر، فلابد أن يكون لها ذلك الدور في الحصول على المعرفة، وهذا بخلاف ما تقوله الوضعية المنطقية في إتهامها للميتافيزيقا ووصفها كعقبة امام التطور المعرفي للعلم. ولكن موقف الوضعية هنا ضعيف للغاية، لإننا نرى أن إهتمامات ميتافيزيقا العلوم هي في وصف النظريات العلمية لإجزاء من العالم (الغير قابلة للرصد)، سواء كان ذلك بشكل صريح أو بصورة ضمنية، فالطرق المحددة في نظرية المعرفة للعلوم تستخدم لتوليد الادعاءات العلمية، ولابد من منهج يقدم تبريرات لتلك الادعاءات التي تشكل المعرفة (التصورات الميتافيزيقية). ولكن هذا الدور الذي كان على الميتافيزيقا ان تقوم به قد إهمل تحت تأثير الفلسفة الوضعية المنطقية في اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الذي أثر في إهمال الاسئلة الميتافيزيقية المتعلقة بالعلم  (33).أي لايمكن أن نحسم بصورة قاطعة صحة ما كان يدعيه فلاسفة العلم من التيار الوضعي المنطقي عن الميتافيزيقا وتصوراتها عن العالم والكون، ولاسيما بعد التطورات والتغييرات الذي حصلت في مجال العلوم، بعد ظهور نظريات علمية خالفت النظرة الوضعية الى العالم والطبيعة، مما دفع بفلاسفة أخرين من تيارات أخرى إلى إعادة النظر في مسألة ما إذا كانت للتصورات الميتافيزيقية أهمية في هذا المجال، وهذا ما وجدناه عند بوبر في دفاعه عن الدور الفعال للنظريات الميتافيزيقية في بناء العلم، وقد أستعرض بوبر في كتابه « نظرية الكوانتا والانشقاق في الفيزياء» تاريخ الفيزياء والبرامج الميتافيزيقية وتأثيرها في بناء العلم.


المبحث الثاني:. اللاحتمية كنظرية ميتافيزيقية.
مع بداية القرن العشرين وظهور نظريات علمية جديدة عن الكون والطبيعة تغيرت معها تصوراتنا ومعرفتناعن العالم، فلم يعد الكون ذلك المعمل البسيط الذي رسمه نيوتن ببراعته العقلية. فبرزت نظريات جديدة تتكلم عن الكون الكبير جداً الذي تقاس وحداته الصغرى بملايين السنوات الضوئية. وكذلك الكون الصغير جداً الذي نسمع عن جسيماته المتناهية في الصغر، ولانكاد نراها.وبدأ التفسير الآلي بحتميته يتداعى أمام تفسيرات أخرى بمبدأ الاحتمال والنظريات الاحصائية.فبالنسبة للكون الصغير، فقد تبين للعلماء منذ ان قدم « دالتون» تفسيره الجزيئي للمادة، وبخاصة بالنسبة للغازات المختلفة في حركة جزيئاتها لا تطيع القوانين النيوتونية.أما بالنسبة لمستوى ادق من المادة هو عالم الجسيمات دون الذرية. فقد تبين للعلماء أن فكرة المسار النيوتونية التي يستند اليها مبدأ الحتمية الالي، لا تنطبق على سلوك الالكترونات. والمقصود بالمسار هو تحديد موضع وسرعة واتجاه حركة الجسم المتحرك . ولكن من المستحيل أن يجتمع للالكترون قياسيين دقيقين للموضع والسرعة معاً  (34).
فعدم تحديد موضع واتجاه وسرعة حركة الجسيمات دليل على ان اللاحتمية نظرية ميتافيزيقية، لانها مبنية على أساس الاحتمالية والامكانية في تصورنا عن العالم بعكس الحتمية القائلة، بإن الكون لها صورة واحدة يمكن معرفتها بمعرفتنا لماضيها وحاضرها سوف تكتشف صورتها في المستقبل. ولكن اللاحتمية ترى العكس،بإن هناك أكثر من صورة ومخطط للعالم، وقد عبر عنها بوبر بقوله :» بالامكان أن نرسم صورة جديدة للعالم الفيزيائي من خلال النزعة اللاحتمية والتأملية، وتكون هذه الصورة بالنسبة للعالم أقرب مخطط لها من كل تلك الاحتمالات التي أصبحت لدينا عن العالم الفيزيائي . ويمكن أن يفترض الحالة الحقيقية للنظام الفيزيائي في هذه اللحظة كفرضية كلية من تلك الاحتمالات أو خيبات الامل. وأن التغيير بالنسبة لهذه الصورة يكمن في الصورة الواقعية لبعض هذه الاحتمالات. وهذه الحقائق في إنعطافها تتألف مجدداً من خيبة أمل أخرى، فهناك إختلاف من خلال الذي نعلمه أو ندركه نحن. وهذه الفكرة ترجع إلى الحس المشترك ووجهة نظرنا عن العالم»(35).
أي أن بوبر يرفض من خلال تصوره اللاحتمي عن العالم، فكرة الثبات وسكونية العالم وهي أيضاً تصور ميتافيزيقي يرجع جذورها إلى فلسفة «بارمنيدس» ،ولكن بوبر يؤمن بإن صورة العالم في تغيير مستمر، أي لايظل على صورة واحدة إلى الابد من ناحيتها المعرفية(معرفتنا عن العالم في تغيير مستمر)، أو معرفتنا عن العالم ليس لها صورة واحدة وهذا ما عبر عنه بوبر بقوله :» من الممكن وصف العالم الفيزيائي بإنه يتألف من أو يكمن في « تغير الامكانيات» أي تكون قابلة للتغيير، وهذه الامكانيات بصورة عامة غير محددة للتغيرات في المستقبل، بل يمكن أن نحدده في بعض الحقول في المجال الفيزيائي على الاقل والذي يساهم فيها الاحتمالية ويمكن أن يتضمن إحتمالات متساوية لتنوع متغيرات ممكنة في المستقبل»(36). نفهم من هذا إذا كان العالم غير ثابت وفي حالة صيرورة مستمرة، فهذا يعني أنه في حالة تقتح دائم مع العوالم الاخرى ولايمكن إختزاله في ظاهرة أو حدث ما ، هنا نجد أن بوبر يقول :» في الواقع ، يميل معظم علماء الفيزياء إلى القول بإن الكون المادي كوناً مفتوحاً، أي أن الكون المادي هو فتح لتأثير العالم الثاني. وأصبح هذا الاعتقاد شكلاً من أشكال اللاحتمية، أي أصبح جزءاً من العقيدة الرسمية للفيزياء. حيث قدم ميكانيكا الكم اللاحتمية في صورة جديدة ، والذي يفترض فرصة إمكانية الاحداث الابتدائية التي هي غير قابلة للاختزال سببياً»(37).
ولكن هذه الاعتقادات التي تفترضها نظرية اللاحتمية هل هي قابلة للتأكد من صحتها أم لا ؟ إننا نعلم أن إعتقادات وتكهنات اللاحتمية الميتافيزيقية غير قابلة للرصد بالمرة لانها تتناول عالم ليس في متناول الحس، وبالتالي لا يمكن أن نتحقق منها إن كانت صحيحة أو خاطئة .وهذا ما ذهب اليه أصحاب الوضعية المنطقية عندما رفضوا الميتافيزيقا وتصوراتها عن العالم، إلا أن بوبر لا يهمها صحة أو خطأ تلك التصورات بقدر ما يهمه بإنها تقدم تصورات عن العالم يمكن أن يتأسس وفقاً لها العلم، وهذا ما لاحظناه في إهتمامات ميتافيزيقا العلوم في مجال معرفة العالم.أيضاً اللاحتمية الميتافيزيقية في جزء منها نظرية غير قابلة للتكذيب وكل ما يمكن فعله هو فحص الحجج المؤيدة للحتمية. فاللاحتمية أيضاً تستند على مبدأ ميتافيزيقي غير قابل للاختبار كما يقول بوبر :» وبنفس الطريقة فإن اللاحتمية الميتافيزيقية هي بدورها، لا يمكن إختبارها ،لإنه حتى ولو أن العالم عرض علينا مظهراً منتظماَ كلية ومحدداً مسبقاً فإن هذا لا يبرهن أن ليس هناك أحداثاً أو وقائع غير محددة مسبقاً من أي طبيعة كانت»(38).
إذن اللاحتمية هي نظرية ميتافيزيقية تقدم تصوراتها لتفسير الظواهر الطبيعية والكونية. وهي محاولة لإدخال مفاهيم الفطرة السليمة مثل الجسيمات والمسارات التي تنطوي بالطبع على الجسيم المتحرك في مسار تكون له في لحظة إحداثيات محددة ومركبات محددة للسرعة. ولكي نحصل على نتائج ميكانيكا الامواج بواسطة وصف سلوك الجسيمات علينا أ ن نستخدم مفاهيم مثل» لاحتمية الاحداثيات» أو « متوسط عدد إصطدامات الجسيم بمنطقة معينة من الستار»، وتختلف هذه القوانين الخاصة بسلوك الجسيمات بطبيعة الحال إختلافاً كبيراً عن القوانين النيوتونية وكذلك عن أفكارنا الفطرية السليمة بشأن الجسيمات»(39).ولكن هذا يدفعنا إلى ان نطرح سؤالا يتعلق بوجود قوانين تحكم الكون والطبيعة بصورة مظبوطة ومنتظمة، فهل بوبر يقتنع بوجود مثل هذه القوانين؟لان القول بمبدأ اللاحتمية تعني أن العالم لا يسير وفقاً لتلك القوانين ،فإن كان هذا صحيحاً ، فماذا نقول عن حالات الانتظام الكوني التي نلاحظها؟ وإما نحن لم ندرك بعد حقيقة تلك القوانين الكونية الذي بمقتضاه يتحرك الكون؟
بهذا الخصوص نجد أن بوبر يقول :» نحن نعتبر السؤال التالي: هل تحكم الكون قوانين مظبوطة أم لا ؟ سؤالاً ميتافيزيقياً . لان القوانين التي نكتشفها هي على الدوام فرضيات نستطيع على الدوام أيضاً تجاوزها، كما نستطيع إستنتاجها من تقويمات إحتمالية.غير أن إنكار السببية لا يعدو كونه محاولة لإقناع الباحث بالعدول عن بحثه وقد بينا اعلاه ان هذه المحاولة لا ترتكز على أي حجة مقبولة.إن لما يسمى « بالمبدأ السببي» مهما تكن صيغته صفات تميزه كلياً عن القوانين الطبيعية. ولذا يجب علينا معارضة شليك الذي يقول :» يمكن إختبار صحة القانون السببي على نفس النحو الذي نختبر فيه أي قانون طبيعي»(40).

من هنا يقدم بوبر سبباً هاماً لقبول اللاحتمية على الاقل بصفة مؤقتة وقوة حجة هذا السبب يعود إلى الحتمية نفسها، فالحجج الوحيدة ذات قوة ما في صالح الحتمية، هي الحجج التي تقدمها الحتمية العلمية وزيادة مع الاخذ بعين الاعتبار، أن حجج الحس المشترك التي هي في صالح الحتمية العلمية، تبدو منهارة في اللحظة التي تواجه فيها مع مشكلة المسؤولية وهكذا يبدو أن الحس المشترك يشهد لصالح اللاحتمية وهناك أسباب عديدة كما يقول بوبر تسمح له بتأكيد أن ثقل الحجة يفرض على المتشيع للحتمية ويذكر منها أربعة أسباب هي :
1. يؤيد الحس المشترك غير الدقيق، التمييز ما بين الساعات والسحب ويؤكد إذن أن بعض الاحداث هي أكثر قابلية للتنبؤ وأخرى أقل قابلية للتنبؤ بمعنى أن التحديد المسبق والتنبؤ به هي مسألة درجة.
2. من المعقول للوهلة الاولى أن الاجهزة العضوية الحية هي أقل قابلية لتحديد مسبق وأقل قابلية لتنبؤ به من بعض الانساق البسيطة على الاقل، وأن الاجهزة العضوية العليا هي أقل قابلية للتحديد المسبق وأقل قابلية للتنبؤ به من الاجهزة العضوية الدنيا.فالقندس  أو البشر ينجون في بيئتهم الفيزيائية من تغييرات مميزة وظاهرة وبدون شك فإن المحيط أو البيئة يمكنها بصفة متبادلة إنتاج تغييرات، مميزة وظاهرة لدى القنادس ولدى البشر لكن هذا ليس كافياً وبعيد جداً لترسيخ صدق الحتمية(41).
3.إذا كان المذهب الحتمي صحيحاً فإنه يتوجب أن يكون بإمكان فيزيائي أو عالم فيزيولوجي يجهل كل شي عن الموسيقى التنبؤ بواسطة دراسة لمخ موزارت ، بالاماكن التي على الورق التي ستلمسها ريشة موزارت زيادة على وجوب قدرة الفيزيائي والفيزيولوجي على إستباق فعل موزارت!! أو كتابة سمفونية حتى قبل أن يتصورها هو عن وعي!! ويصدق هذا على الاكتشافات الرياضية كما يصدق على كل إكتشاف علمي وإن كان رجلاً مثل كانط كان مجبراً ضمنياً بواسطة هذه المبادئ الحتمية على تأييد مثل هذه النتائج وهي نتائج يعتبرها بوبر غير مقبولة حدسياً، ومهما كان الامر فإنها تتجاوز بكثير حدود معرفتنا الحالية.
4.إن اللاحتمية التي تقول أن هناك على الاقل حدث ليس محدداً مسبقاً أو قابلاً للتنبؤ هو بدون شك تأكيد أضعف من تأكيد المذهب الحتمي العلمي الذي يؤيد أن كل حادث هو قابل للتنبؤ من حيث المبدأ وإذا كان هذا صحيحاً فإننا نفضل النظريات الاقوى على النظريات الاضعف فمرد هذا لانها تسمح ببناء الحجة، أي تسمح بالنقد، دائماً الذي يقترح النظرية الاقوى، فإنه يقبل بثقل الدليل إنه يتوجب عليه الادعاء بحجج لتأييد نظريته بإظهاره في الاهم قدرتها التفسيرية، لكن كما يلاحظ بوبر :» فإن الحتمية العلمية ، أم لا ، لا تنتمي البتة إلى العلم وليس لها أية قدرة تفسيرية»(42).
الخاتمة:
لقد تناولنا في بحثنا هذا مفهوم الحتمية واللاحتمية في فلسفة العلم عند كارل بوبر, وتوصلنا الى ان النظريات العلمية لا يمكن بنائها من دون التصورات الميتافيزيقية, حيث تعد الحتمية واللاحتمية من النظريات الميتافيزيقية ذات التصورات العامة للوجود, وبالاعتماد على تلك النظريات يمكن لنا ان نبني نظريات علمية عن الوجود, وهذا ما دافع عنه كارل بوبر على ضوء النظريات العلمية المعاصرة. حيث تناولنا موقف كارل بوبر من دور النظريات الحتمية واللاحتمية في بناء النظرية العلمية, حيث اكد بوبر بأن للتصورات الميتافيزيقية دور في بناء العلم وفقاً للتصور الكلاسيكي للوجود ذات النزعة الحتمية, والتصور المعاصر للوجود ذات النزعة اللاحتمية.
وقد انتقد بوبر الحتمية العلمية والحتمية الميتافيزيقية وأيد اللاحتمية كنظرية ميتافيزيقية في بناء العلم على ضوء العلم المعاصرة.

-------------------------
مقتبس...

(1). الشنيطي، محمد فتحي، أسس المنطق  والمنهج العلمي،دار النهضة العربية، بيروت،1970،ص189.
(2). المصدر نفسه، ص 190.191.
(3).محمد،بدوي عبد الفتاح، فلسفة العلوم الطبيعية، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، الاردن،ط1، 2011، ص 317.
(4).محمد،بدوي عبدالفتاح، فلسفة العلوم الطبيعية، المصدر السابق، ص 321.
(5). Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism.EditedBy W.W.Bartley.III,1982,p123.124.                                                    
(6).دالمديكو،أمي داهان،شابير،جان لوك، الفوضى والحقيقة، ترجمة،هاني حداد،وزارة الثقافة السورية،2002، ص 361.
(7). المصدر نفسه، ص 365.
(8).Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism.op.cit.p.4                                                                                 
(9).op.cit.p 124                                                                                                       
(10).op.cit.p 31.32                                                                                                   
(11).op.cit.p 5                                                                                                           
(12).بوبر،كارل،بؤس الايديولوجيا، ترجمة،عبدالحميد صبرة، دار الساقي، بيروت، ط1، 1992، ص 9.
(13).Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism,op.cit. p 36
(14).مذبوح،لخضر،فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر، منشورات الاختلاف، الجزائر،ط1، 2009، ص 237.
(15).المصدر نفسه، ص 233.
(16).Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism,op.cit. p 33.34
(17).مذبوح،لخضر،فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر،المصدر السابق، ص 241.242.
(18).Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism, p 45
(19).op.cit.p 89                                                                                                   
(20).مذبوح،لخضر،فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر،المصدر السابق،ص 230.
(21).بوبر،كارل،بؤس الايديولوجيا،ترجمة،عبدالحميد صبرة، دار الساقي، بيروت، ط1، 1992، ص 118.119.
22.Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism, p 77.79
23.op.cit.p 79.80                                                                                                 
.24.op.cit.p 81                                                                                                      
    25.A metaphysics for scientific realism, ANJAN CHAKRAVARTTY.P 18
(26).مذبوح،لخضر،فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر،المصدر السابق،ص 230.
(27).1.Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism, p 7
.28.op.cit.p 89                                                                                                    
.29.op.cit.,p 90                                                                                                   
.30. Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism,op.cit. p. 87                                                                                                  
.31.op.cit., p. 88                                                                                                           
32.Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism,op.cit. p 88
33.A metaphysics for scientific realism, ANJAN CHAKRAVARTTY.P 25       
(34).محمد،بدوي عبدالفتاح، فلسفة العلوم الطبيعية، المصدر السابق، ص 322.323.
35. Popper,K.R,QUANTUM THEORY AND THE SCHISM IN                       PHYSICS.op.cit.p.160
.36 op.cit. p. 160                                                                                               
 37.Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism, p 124     
 38.op.cit.  p 7                                                                                                        
(39).فرانك،فليب، فلسفة العلم الصلة بين العلم والفلسفة،ترجمة،علي علي ناصف،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،ط1، 1983، ص 298.
(40).بوبر،كارل، منطق البحث العلمي، المصدر السابق، ص 269.
 Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism, (41) p 23    
(42).مذبوح،لخضر،فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر،المصدر السابق،ص 239.ويمكن الرجوع الى حجج بوبر لتاييد اللاحتمية من نفس المصدر، ص 249.250.
العدد الثاني من مجلة أقواس
ربيع 2013
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقتبس...

قصيدة الطلاسم .. للشاعر ايليا ابو ماضي

كم انت رائع وجميل
وهذا الاحساس المطلسم كاد ان يكون من طين
لولا روحك الفذة وعطر النسيم..؟؟؟

الجدل حول المثنوية



أن أكثر البراهين استخداما في ءاثبات صحة المثنوية هي أنها مستمدة من بداهة الفكر السليم الذي يلاقيه الوعي وذلك ما يميزه عن المادة الغير حية. فإذا سألت أشخاص عاديين عن ماهية العقل، فإنه سيجيبونك عن طريق تعريفه من ذاتهم وشخصيتهم وروحهم أو من خلال بعض العوامل الداخلية من هذا القبيل. ومن المؤكد أنهم سينكرون أن العقل مجرد دماغ.العديد من فلاسفة العقل المعاصرين يزعمون ان تلك البديهيات مضللة, ولذلك يجب علينا استخدام ملكتنا النقدية بجانب البراهين المثيتة من العلوم
لكى ندرس تلك الأفتراضات ونقرر ان كان لها أساس علمى ام لا..؟؟؟

ــــــــــــــــــــــ
مقتبس...

مقارنة مع الأجناس الأخرى




كانت هناك محاولات مختلفة لتحديد سمة سلوكية واحدة تميز الإنسان من بين جميع الحيوانات الأخرى. فيعتقد الكثير من علماء الأنثروبولوجيا أن السمات التي يسهل ملاحظتها (صناعة الأدوات واللغة) تعتمد على عملية عقلية يسهل ملاحظتها بدرجة أقل بحيث قد تكون فريدة بين بني الإنسان: القدرة على التفكير بطريقة رمزية، من الناحية المجردة أو المنطقية، هذا على الرغم من أن بعض الأجناس قد أظهرت بعض القدرات في تلك النواحي. ولا يتضح أيضا عن أي مرحلة على وجه التحديد من مراحل تطور الإنسان أصبحت تلك السمات سائدة. قد لا تكون تلك السمات قاصرة على جنس الإنسان، فالأجناس المنقرضة من جنس الإنسان (مثل نياندرتال والإنسان المنتصب) يعتقد أيضا أنها كانت أهلا لصناعة الأدوات وكانت لديهم أيضا مهارات لغوية.
يعد التفكير في بيئة التعلم جزء مهما من دائرة الاستمرار حتى يمكن تحقيق أقصى استفادة من التجارب المكتسبة. فبدلا من المضي قدما إلى المهمة التالية، يمكننا مراجعة عملية المهمة ونتائجها - وبعد مرور وقت قصير، يمكننا إعادة التفكير في قيمة التجربة بالنسبة لنا وبالنسبة للسياق الذي كنا فيه..؟؟؟

ــــــــــــــــــــــــ
مقتبس...

الإدراك الحسي والواقع



العديد من علماء النفس الاستعرافيين يصرحون أننا كبشر، عندما نتجول في العالم المحيط بنا، إنما نبني نموذجنا الخاص لكيفية سير هذا العالم. نحن نحس بعالمنا الموضوعي الحقيقي، لكن إحساساتنا يتم إسقاطها (تحويلها) إلى مدرَكات مؤقتة احتياطية provisional، كما نكون العديد من الفرضيات العلمية المؤقتة لحين إثباتها أو دحضها.
عندما نستقبل معلومات حسية جديدة، تتغير مدركاتنا وفقا لها. أبراهام بايز كان يؤكد دوما على هذه الطبيعة اللدنة للخيال الإنساني. في حالة الإدراك الحسي يمكن لبعض الناس أن يروا حقيقة التغير في المدرك البصري بما يمكن أن نسميه عيون عقلية. لكن الأشخاص الآخرين الذين لا يتمتعون بتفكير صوري لا يمكنهم أن يحسوا perceive حقيقةً بتغير الشكل المرافق لتغير عالمهم. أحد أمثلة هذه الحالة هي الصور الملتبسة ambiguous image التي تملك أكثر من تفسير على المستوى الإدراكي.
في هذه الحالة نملك جسما واحدا يمكن ان ينتج أكثر من مدرك واحد، بالتالي يمكن ان نجد أن جسما ما يمكن ألا ينتج أي مدرك على الإطلاق : إذا كان المدرك غير موجود أساسا ضمن خبرة الشخص، وعندئذ يمكن للشخص ألا يدركه إطلاقا.
هذه الطبيعة الملتبسة المحيرة للإدراك الحسي يمكن أن تظهر في بعض التقنيات الحيوية التي تستخدمها الأحياء في الطبيعة
مثل : التقليد والتمويه. إدراك حسي..؟؟؟

ـــــــــــــــــــــــــ
مقتبس...

الخميس، 24 أكتوبر 2013

هكذا يتحدث العقاد




لست أهوى القراءة لأكتب، ولا لأزداد عملا في تقدير الحساب، إنما أهوى القراءة لأن لي في هذهِ الدنيا حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة.

القراءة وحدها هي التي تعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة، لأنها تزيد هذهِ الحياة عمقا، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب. فكرتك أنت فكرة واحدة، شعورك أنت شعور واحد، خيالك أنت خيال فرد واحد إذا قصرته عليك، ولكنك إذا لا قيت بفكرتك فكرة أخرى، ولاقيت بشعورك شعور آخر، ولاقيت بخيالك خيال غيرك، فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين، وأن الشعور يصبح شعورين، وأن الخيال يصبح خيالين .. كلا .. وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات الفكر في القوة والعمق والامتداد" ..؟؟؟

عباس محمود العقاد...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ