بالحقيقة لا أعرف كيف أبدي وأدون كل ما أعرف ويخطر ببالي من الأمور العامة والخاصة من كثرة المعوقات التي تصيبني بين الحين والأخر لكن هنالك فرصة أحاول أختصرها بأشياء بسيطة حسب معرفتي القاصرة بتلك ألأمور لأنني ليس من اصحاب الكفائات العلمية والثقافات العامة ولا من اصحاب الأمور المعرفية التي يتحلون بها بعض ألأشخاص من بيننا ومن خلال النت والمجتمعات التي من حولنا فأرجو كل من يطلع على المدونة الخاصة بي ان يعذرني لعدم معرفتي بأبسط ألأمور.. وشكراً
الجمعة، 8 نوفمبر 2013
الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013
الحتمية واللاحتمية في فلسفة العلم
| الحتمية واللاحتمية في فلسفة العلم عند.. كارل بوبر |
![]()
د.حسن حسين صديق
المقدمة: جرى جدلا كبيرا بين الفلاسفة حول موضوع العلاقة بين العلم والميتافيزيقا , لقد اكد كارل بوبر بأن للتصورات الميتافيزيقية دور في بناء العلم والنظرية العلمية, واعتبر الميتافيزيقا ضرورية في طرحها لتصورات قد تناسب حلاً للمشكلات العلمية. وقد حلت هذا الوعي « اهمية النظريات او التصورات الميتافيزية» في بناء النظرية العلمية، بعد ان حدثت تغيرات سريعة وكبيرة في مجال العلم ونظرياته وتفسيراته للطبيعة والكون، هذه التغيرات نبعت من ظهور نظريتين علميتين في القرن العشرين، غيرت معها كل فروع المعرفة والفكر، هما، « نظرية النسبية» و « نظرية الكوانتم». في الماضي كان الفلاسفة والعلماء ينظرون الى الكون والطبيعة نظرة استقرائية، وكان من نتيجة ذلك بزوغ الايمان بالنظرية الحتمية في تفسير وتنبوء الاحداث في الكون. هذه النظرية تنص على وجوب حدوث الظاهرة اذا ما عرفنا بعض تفاصليها في الحاضر، فاذا ما حدث او ظهرت تلك التفاصيل سوف تقع نفس الظاهرة او الحدث. هذه النظرة دفعت بالعلماء من جهة والفلاسفة من جهة اخرى، الى قراءة المستقبل على غرار الماضي او الاصح قرءاة الحاضر والتنبؤء بالمستقبل على غرار الماضي. لكن من نظريتا النسبية والكوانتم تغير كل شي بين ليلة وضحاها، بدأت الفوضى تعم نظرياتهم وفرضياتهم، لم يأتي المستقبل منسجماً مع تصوراتهم الحتمية، مما دفعهم الى البحث عن نظريات اخرى تنسجم مع الواقع، فكانت اللاحتمية او الاحتمالية هي النظرية القادرة على تجاوز حالات الفوضى في مجالات العلم والفلسفة. وقد اشاد بوبر بدور اللاحتمية كنظرية ميتافيزيقية في بناء وتطور العلم ونظرياته. لقد ركز بوبر على نظريات الحتمية واللاحتمية كنظريتين ميتافيزيقتين , واكد على دورهما في بناء النظرية العلمية, فالتصور الحتمي للعالم مبني على اساس ميتافيزيقي الذي يؤكد بأننا نستطيع ان نتنبأ بأي وقت تقع الحوادث. حيث تناول بوبر بالنقد هذه النظرية, وأيد بدلاً عنه النظرية اللاحتمية. أهمية البحث: تكمن اهمية هذا البحث في ضرورة تعدد الرؤى الفلسفية لقراءة الواقع، فبوبر يبين لنا ذلك، فلابد للباحث العلمي والفلسفي ان يعلم بان لتلك النظريات دور مهم في تقديم تصورات متعددة عن الواقع ونحن نعيش في زمن العلم وتغيراته السريعة، لذا علينا ان نقرأ الواقع باكثر من منظور سواء كان ذلك قراءة حتمية.استقرائية او احمتالية فرضية. اما المنهج المستخدم في هذه الدراسة: فهي منهج التحليل والنقد في عرض تصورات كارل بوبر حول موضوعات دقيقة في مجال الفيزياء والميتافيزيقا. حيث جاءت دراستنا في مقدمة ومبحثين مشفوعا بالخاتمة. تناولنا في المبحث الاول الحتمية كنظرية ميتافيزيقية ودورها في بناء النظرية العلمية وموقف بوبر من تلك النظرية.تطرق بوبر الى الحتمية العلمية والميتافيزيقية ناقدا كلا منهما. وتناولنا في المبحث الثاني اللاحتمية كنظرية ميتافيزيقية من وجهة نظر بوبر ومدى اهميتها في الدراسات العلمية والتصورات الفلسفية. المبحث الأول:. الحتمية كنظرية ميتافيزيقية وموقف بوبر منها: تعد مشكلة الحتمية من المشكلات الفلسفية في مجال العلم والميتافيزيقا، حيث يتعلق بموضوع التنبؤ الدقيق بحالات المستقبل على غرار الماضي، أي هل يمكن تحديد المستقبل على أساس الماضي والحاضر؟ ففي العلم مسلمة ضمنية لجميع القوانين العلمية، وهي ثمة حتمية تقتضي أن تأتي الظواهر في المستقبل على نفس النسق الذي جاءت عليه في الماضي والحاضر(1). أما الحتمية في المجال الميتافيزيقي فتنطوي على التنبؤ بالمستقبل أيضاً. فالتنبؤ خطوة أساسية في كل بحث ولولاه لما تقدم العلم، لذا تعد الحتمية القاعدة الاساسية التي لايمكن أن يتم أي بحث إلا بها. وعندما نتحدث عن الحتمية في مجال العلوم الطبيعية فإننا نعني بها إمكان التنبؤ بالحالات المستقبلية إستناداً إلى الحالة الحاضرة(2). وقد ذهب « هنري بوانكاريه « إلى القول بإن منشأ مبدأ الحتمية هو علم الفلك. فالنظام الدقيق والثابت الذي تتحرك به الكواكب في أفلاكها حول نفسها وحول الشمس، هو الذي أوحى للانسان منذ بداية الخليقة بفكرة النظام.أي أن فكرة الحتمية في التفكير العلمي الحديث مرتبطة بفكرة المسار الثابت.أي أن كل شي متحرك بموضعه المكاني وسرعته فاذا عرفنا موضع ذلك الشي والسرعة التي يتحرك بها وأتجاه الحركة،أمكننا التنبؤ بنوع من الحتمية المطلقة أين سيكون ذلك الشي في وقت معين أو متى سيكون في موضع معين.وطالما أن كل شي في الكون يتحرك. إذن فالكون كله تحكمه حتمية صارمة. وهي الفكرة التي لعبت الدور الرئيسي في الحتمية الالية المنبثقة عن الفيزياء النيوتونية، بل إن الايمان بالحتمية تجاوز مجرد التنبؤ الدقيق، ليصبح أداة الكشف العلمي(3). نفهم مما عرضناه أن الحتمية مبدأ ميتافيزيقي يؤمن به العلماء بإن في الكون نظام كلي شمولي يتحكم في ظواهر، فإذا ما عرفنا قوانينه، تمكنا من التنبؤ بما يحدث في المستقبل وهذا دفع بالعلماء أن يعتمدوا عليها حتى في الاكتشافات العلمية.لذا لايمكن لنا القول بإن قرارات الحتمية فارغة من المعنى في حين نقر من جهة أخرى بان العلماء أعتمدوا عليها في إكتشافاتهم وتنبؤاتهم لإننا نقع في التناقض المنطقي.بل علينا الاعتراف بإن لتلك المبادئ الدور الفعال في بناء العلم والنظرية. من هنا نجد أن موقف فلاسفة العلم من الوضعين الذي يعتبر أن مبدأ الحتمية مصادرة براجماتية أو اداتية، أو فرضاً شديد العمومية ولكن. نسلم به من أجل قيام العلم، دون أن نبرهن عليه، وطالما البرهان مستحيل. ويرفضون التفسيرات الاخرى إما لتناقضها المنطقي أو لإستنادها إلى ثوابت ميتافيزيقية (4). أما بوبر فيرى أن : « فكرة الحتمية الكلاسيكية أو حتمية العالم الاول، هي فكرة قديمة جداً من الذي وضعها» لابلاس» على أساس ميكانيكا نيوتن. ويمكن القول أن نظرية لابلاس في الحتمية هي : نفترض لو تعطى لنا بصورة مضبوطة مواقف وسرعات جميع الجزيئات المادية عن جزء من العالم في لحظة من الزمن، لتمكنا بمساعدة الميكانيكا النيوتونية من حيث المبدأ، معرفة كل ما حدث من الوقائع في الماضي، وجميع ما سوف يحدث في المستقبل، وتشتمل هذه المعرفة الحتمية على جميع الحركات البدنية للرجال، والكلمات المنطوقة أو المكتوبة، وجميع الموسيقى التي سوف تكون مكتوبة من أي وقت مضى. كل هذا يحدث إذا كان مبرمجاً مع قوانين نيوتن للحركة(5)» . وقد عبر « بيير سيمون لابلاس» عن الحتمية في كتابه « دراسات فلسفية حول الاحتمالات» بقوله :» علينا إذن أن ننظر إلى الحالة الراهنة للكون على أنها نتيجة لحالته السابقة، وسبب لحالته القادمة. والفكر الذي يعرف في لحظة معينة القوى المحركة للطبيعة كلها.وحالة كل من الكائنات التي تتألف منها، وإذا كان هذا الفكر واسعاً إلى الحد الذي يسمح بتحليل المعطيات ، وتشمل حركات الاجسام الموجودة في الكون، كبيرها وصغيرها في صياغة واحدة، فإن هذا الفكر لن يجد أي شي غير حتمي، وسيكون المستقبل والماضي ماثلين أمام عينه»(6). والحقيقة أن تفكير «لابلاس» كان ضمن إطار الميتافيزيقا المادية التي كانت شائعة في نهاية القرن الثامن عشر. حيث كان لابلاس مؤمناً بإمكان معرفة القوانين الرياضية للكون ، كان يؤكد أن فكراً فائقاً نظرياً تماماً ذا قدرات إدراكية لامتناهية يستطيع حساب تأثيرات قوانين الطبيعة كلها. وهذا الفكر لا يملك صفات خارقة، ويعترف لابلاس في الوقت نفسه أن الانسان سيبقى دائماً بعيداً بعداً لامتناهياً عن هذا الفكر الفائق(7). ويعتبر بوبر الموقف الحتمي في الاصل موقفاً دينياً متصلاً بفكرة القدرة الالهية الكلية والعلم الكلي، الممنوحة للوجود الذي ليس له فقط القدرة على تقدير وتحديد المستقبل بل يعرفه دوماً، وهذا يؤدي إلى الاعتقاد أن أي حادثة قدرت مسبقاً وفي هذا يقول بوبر :» فكرة الحتمية هي فكرة ذات أصل ديني ، وأن وجدت هناك ديانات تعتقد في اللاحتمية التي ترى أن على الاقل بعض الوقائع أو الاحداث ليست مقدرة سلفاً، الحتمية الدينية وثيقة الصلة بأفكار القدرة الكلية على تحديد المستقبل كله، والعلم الالهي الكلي بكل شي ويستلزم هذا أن المستقبل منذ الحاضر معروف عند الله وبالنتيجة يمكن معرفته قبلاً، وهو محدد نهائياً «(8). ولكن موقف بوبر واضح من الحتمية اللابلاسية ويصفها بالغير مقنعة، لان معرفة كل تفاصيل الاحداث الكونية يحتاج إلى قدرة خارقة يمتلكها الانسان كي يتجاوز كل الحدود الكونية وهذا محال، ومن هذا المنطلق يقول بوبر:» أنا شخصياً أجد وجهة نظر لابلاس في الحتمية غير مقنعة وغير جذابة، وان حجته مشكوك فيه، لان معرفة كل تلك الاحداث يحتاج إلى حاسبة تمتلك القدرة على تجاوز هذا الكون المعقد».إلا أن لابلاس توصل إلى إستنتاجه من فكرته عن عالم مغلق وحتمي وسببي.ويشير بوبر إلى إمكانية التعديل في وجهة نظره عن الحتمية بناءاً على إنهيار بعض المحاولات للحد من تجارب ماكسويل في الكهرومغناطيسية لميكانيكا نيوتن من خلال النموذج الميكانيكي للاثير»(9). والسبب الذي دفع بلابلاس الى الاعتقاد بالحتمية يكمن في تصوره عن العالم، حيث يتكون العالم من جسيمات وفقاً للديناميكا النيوتونية، وأنه في لحظة واحدة من الوقت نكون على معرفة كاملة ودقيقة للحالة الاولية للنظام العالمي والذي ينبغي أن يكون كافياً لحسم معرفتها في أي لحظة أخرى. ويمكن تفسير الفكرة العامة عن الحتمية بمساعدة فليماً سينمائياً يظهر فيه دول العالم متعاقبة مع الواحدة تلو الأخرى، وسيظهر في هذا الفيلم أن المستقبل يكون محدداً وثابتاً قياساً لثبات الماضي. من هنا فإن المستقبل يكون ثابتاً، من حيث المبدأ، وهذه المعرفة ليس مجرد تخمين، بل هي معرفة يقينية (10).وبالفعل إن المستقبل هو معروف من قبل خالق العالم وهذا هو أصل التصور الديني للحتمية الذي عوض فيه شيطان لابلاس الاله الكامل القدرة والعلم في الحتمية الدينية، لتصبح القوانين الطبيعية في عقل هذا العالم، فوق العادة تعبيراً صادقاً عن الحالة الفعلية للعالم(11). ولكن معرفة المستقبل من خلال الماضي والحاضر من خلال معرفتنا بالنظام العام للعالم أمر لا يقبله منطق العقل لاننا نحتاج إلى إمكانية هائلة وقدرات كبيرة حتى نستطيع الالمام بكل تلك الاحداث، يرفض بوبر النظرة الحتمية في جميع أبعادها التاريخية والاجتماعية والعلمية ويقدم برهانه في هذا بقوله :» إن المتنبئ العلمي سواء كان عالماً من البشر أو آلة حاسبة. لايمكنه، بالطرق العلمية،أن يتنبأ بما سيصل اليه من نتائج في المستقبل. والمحاولات التي يبذلها في التنبؤ لا يمكن أن تبلغ إلى نتيجتها إلا بعد حدوث هذه النتيجة، أي بعد أن يكون الوقت قد فات على التنبؤ. وبعبارة أخرى، لا تصل هذه المحاولات إلى نتيجتها إلا بعد أن يكون التنبؤ قد أستحال إلى مجرد تقرير لما وقع في الماضي»(12). إذن يمكن أن نحدد معنى الحتمية العلمية على النحو التالي كما يدعي بوبر:» إن مذهب الحتمية العلمية هو المذهب الذي يمكن من خلاله توقع حالة أي نظام مادي مغلق في أي لحظة معينة من الزمن في المستقبل، وحتى من داخل النظام، يمكن دائماً بالاشتراك مع الشروط الاولية من إستنتاج نظريات التنبؤ بدرجة من الدقة، لان مهمة التنبؤ تتطلب درجة من الدقة ، وهذا هو التعريف الاضعف لصياغة الافكار في الحتمية العلمية(13).إلا أن الحتمية العلمية تشترط القدرة على التنبؤ بكل حادثة بدرجة مرغوبة من الدقة شريطة أن تكون معطاة شروط أولية دقيقة بما فيه الكفاية، لكن ماذا تعني كلمة « بما فيه الكفاية» إنه يتوجب علينا تفسير ما المقصود بشروط أولية دقيقة بما فيه الكفاية بطريقة تحرمنا حتى من حق المرافعة كلما نخفق في تنبؤاتنا والقول أن الشروط الاولية المعطاة لم تكن دقيقة بما فيه الكفاية ، بعبارات أخرى فإن نظريتنا يجب عليها أن تدرك أن عدم دقة التنبؤ بنفس درجة الدقة التي نشترطها في التنبؤ فإنه يتوجب عليها أن تسمح لنا بحساب درجة دقة الشروط الاولية التي ستكتفي لإعطائنا تنبؤاً له درجة دقة مطلوبة ويسمي بوبر هذا الشرط مبدأ المسؤولية(14). يقسم بوبر الوقائع في إطار الحتمية إلى نمطين: أحداث ووقائع يمكن التنبؤ بها مثل تعاقب الفصول أو دورات الساعة، وإلى أحداث ووقائع لا يمكن التنبؤ بها مثل حركة السحب . يقول بوبر :» إن كانت فكرة الحتمية العلمية تبدو من وجهة نظر تاريخية نوعاً من التجربة الحتمية الدينية بمصطلحات علماء طبيعة وعقلانيين، فمن الممكن إعتبار الحتمية العلمية، في منظور أخر يمكن على سبيل المثال، تقديمها كنتيجة لنقد دقيق لصورة العالم المأخوذة عن الحس المشترك، فحسب هذه الصورة، فكل الاحداث تدخل في واحد من الفئتيين: الاحداث القابلة للتنبؤ مثل دورة الفصول، والاحداث غير قابلة للتنبؤ مثل تقلبات الزمان والجو» (15).فطبقاً لقوانين نيوتن الميكانيكية ، فإن العالم إفتراض متمثلا في تفاعل جزيئات، حيث أن معرفة كلية.ودقيقة لحالة العالم في أية لحظة ستكون كافية لإستنباط حالته في أية لحظة أخرى ومعرفة كهذه عند بوبر تتجاوز قدرة الانسان ولم يلجأ « لابلاس» إلى القدرة الالهية، بل لجأ إلى تخيل شيطان أو إلى نوع من العالم فوق العادة. وبعد هذا التغيير الحاسم فقدت الحتمية مظهرها الديني المذهبي وقبلت كحقيقة علمية.وهكذا بإدخال «لابلاس» لعقل فوق بشري،قادراً على تحديد المجموع الكامل للشروط الاولية لنسق العالم أو لنظام العالم في لحظة ما كيفما كان الحال شريطة معرفة هذه الشروط الاولية وكذلك قوانين الطبيعة ، فالشيطان سيكون بمقدوره حسب لابلاس إستنباط كل الحالات المستقبلية للعالم شريطة أن تكون قوانين الطبيعة معروفة، فالمستقبل سيكون متضمناً في أية لحظة من ماضيه، وهكذا فحقيقة الحتمية ستكون إذن مقامة، والسمة الاساسية لهذه الحجة هي التالية، مذهب الحتمية لم يعد فيه حقيقة لكنه أصبح حقيقة علمية (16). ان الحتمية بالنسبة لبوبر تفتقر إلى أي أساس وذلك لانه ليس هناك كفاية لمعرفة جيدة للتنبؤ بأي تفصيل جزئي مفرد حول أي شي في العالم، لان الطابع الكلي لنظرياتنا يعرض لمشكلات من نفس النظام، فنحن بحاجة إلى الاعتقاد بإن العالم هو توليفة واحدة من الاحداث الفريدة، وذات تعقيد كبير، تعقيد ربما لانهائي، ورغم هذا فإننا نحاول وصف هذا العالم الوحيد الفريد بواسطة نظريات كلية، ويمكننا منذ اللحظة التسأول عما إذا كانت هذه النظريات هي وصف للخطوط أو السمات مثل سمة البساطة والكلية أو الكونية ليست إلا خاصية من خصائص نظرياتنا وربما خاصية لغتنا النظرية وليست خاصية العالم(17).وقد أجاب بوبر بقوله :» أعتقد أن ماهو صحيح فيما يتعلق بالبساطة ليس صحيحاً تماماً فيما يتعلق بالكلية، فإذا قلنا « كل كلب له ذيل « فإننا نؤكد بالفعل شيئاً ما عن كل الكلاب، وهكذا إن نحن أردنا إكتشاف جنس جديد من الكلاب ليس له ذيل (شبيه بقطط جزيرة Man التي ليس لها ذيل) فإنه يتوجب علينا سحب هذا التأكيد ، فالكونية هي إذن مؤكدة بواسطة نظرياتنا إنها شي نحاول إختباره والبساطة على العكس ليست مؤكدة بواسطة نظرياتنا وأن أستطعنا ذلك فإننا لا نعرف كيف نعمل على إختبارها» (18). فالحتمية مع ذلك كان لها دوراً مهماً كمصدر لمعرفة العلماء ونظرياتهم، فهناك من العلماء من كان مقتنعاً بالحتمية مع كل تلك التغييرات التي حصلت في مجال العلوم التجريبية وقد أشار بوبر إلى ذلك :» في ضوء مناقشتنا للنسبية الخاصة، قد طلبت من أنشتاين نفسه كيف يمكن أن يكون على قناعة بالحتمية؟ وكان جوابه التالي: على الرغم من أنه في سنواتي التكوينية كنت مؤمناً بالحتمية العلمية، وفي أواخر حياتي كان إيماني بالحتمية وبصراحة هي من نوع الحتمية الدينية أو الميتافيزيقية»(19).وكان أينشتاين معروفاً بنزعته الوضعية.الاختبارية، وكان رافضاً أن يكون للميتافيزيقا حضور في نظرياته العلمية وهو مؤمن في نفس الوقت بالحتمية كمبدأ علمي تقام على ضوئه النظريات العلمية. فتصوره عن الواقع المادي كان تصوراً حتمياً لهذا طالب أن يكون لنظرياته الفيزيائية ذلك الطابع الحتمي. نقد بوبر للحتمية العلمية: إن الحتمية التي ينقدها ويحاربها بوبر هي حتمية لابلاس العلمية التي تقول أن حالة الكون في أية لحظة من الزمان.في المستقبل والماضي، هي محددة كلية إن كانت حالة الكون وموقعه أعطيا في لحظة ما على سبيل المثال، الحاضر، أو كقوله :» يجب علينا النظر في الحالة الحالية للكون كنتيجة لحالته السابقة وكسبب لما يستتبع،عقل في لحظة ما سيعرف كل القوى، التي بها الطبيعة تتحرك، والموقف الخاص للكائنات التي نشكلها فلا شي يكون لا يقينياً لديه، والمستقبل مثل الماضي سيكون حاضراً أمام ناظري».أو قوله أيضاً أن بنية العالم يكون فيها:» كل حادث أو واقعة يمكن التنبؤ بها عقلانياً بدرجة من الدقة، المطلوبة، شريطة أن يعطي لنا وصف دقيق كاف للاحداث أو الوقائع الماضية وكذلك قوانين الطبيعة»(20). هذه النظرة اللابلاسية هي نقطة إنطلاق بوبر لتوجيه نقده حول مفهوم الحتمية العلمية بالصورة التالية:. 1. عندما طرح بوبر سؤالاً حول التطور قائلاً، هل يمكن أن يكون للتطور قانون؟ هل يمكن أن يكون له قانون علمي بالمعنى الذي قصده (ت.ه.هكسلي) حيث قال :» إن الفيلسوف الفاقد الهمة هو الذي ...يشك في أن العلم سوف يحصل عاجلاً أو أجلاً... على قانون تطور الاشكال العضوية، أعني قانون النظام الثابت في تلك السلسلة العلمية الكبرى التي تتكون حلقاتها من الاشكال العضوية القديمة والحديثة...؟ حيث يقول بوبر أن الجواب على هذا السؤال ينبغي أن يكون بالنفي، وأن البحث عن قانون ل» النظام الثابت» في التطور لا يمكن ان يكون بحال من الاحوال في متناول المنهج العلمي، سواء في علم الحياة أو في علم الاجتماع». ويأتي بوبر بأمثلة عديدة في مجال البيولوجيا كي يؤكد نقده للحتمية العلمية، حيث يقول :» كذلك لا يمكن أن تسعفنا مشاهدة العملية الواحدة الفردة في التنبؤ بمستقبل تطورها.فنحن مهما بذلنا من عناية في مشاهدة نمو يرقة واحدة، فلن يساعدنا ذلك على التنبؤ بتحولها فيما بعد إلى فراشة» (21). 2.إن عملية التنبؤ بما يحدث ليس بالعمل السهل، لان مسألة التنبؤ العلمي لمعرفة الحالات الفيزيائية ليس بالعمل الميسور، لإننا لا نستطيع الاحاطة بكل التفصيلات عن تلك الحالات.يقول بوبر :» لقد أثبتنا أن التنبؤ حالة مستحيلة حتى لو كان مبنياً على دمج التوقعات لشيطان لابلاس التي تتحرك على أبسط المبادئ الميكانيكية والذي يمثل مؤشراً لنظام حتمي مادي دون جدل، ويمكن لنا أن نستخدم نتائج العلم التي توصلت اليها النظريات لدحض الحتمية العلمية وهي تتعلق بمسألة نجاح العلم. لان تطبيق أسلوب التنبؤ العلمي لا يتم دون أن تتأثر تلك العملية بالجانب الذاتي لنا، فالحتمية العلمية من حيث المبدأ تتطلب منا أن نكون قادرين على التنبؤ، وأن نختار كل شي في عالمنا بدرجة من الدقة، إلا أننا جزء من موجودات عالمنا هذا، فاستحالة التنبؤ الدقيق هو دحض لهذه العقيدة والتي هي نتيجة لإستحالة التنبؤ الذاتي. فمن خلال إستخدام المنطق وحده يمكن تفنيدها في الواقع، حيث تبين أن عقيدة الحتمية العلمية هي تناقض ذاتي. وبالتالي لاشيء يمكن أن يدعم الحتمية العلمية، وعدم اللجوء إلى ظاهرة العلم لحسم الموضوع، يمكن أن يدعم شكل أخر من أشكال الحتمية(22). ولكن هناك سؤال مهم جداً يتبادر إلى الذهن فيما يتعلق بالموقف النقدي لبوبر من الحتمية العلمية الا وهو، هل كان بوبر مقتنعاً بإنه يستطيع دحض الحتمية العلمية؟ أم كان يأمل في أن يدحض الحتمية العلمية؟ وقد أجاب بوبر على هذا السؤال بقوله:» موقفي من هذه الانتقادات هو أن يخطئ وجهة نظري. لا أريد دحض الحتمية، وعلى ما أعتقد لا يمكن دحضها، أتمنى دحض ما دعيته الحتمية العلمية. لقد دحضت إشارات الاخرين الى النجاح الفعلي للتنبؤ العلمي والذين يؤكدون على ان هذا النجاح هو ما يبرر أن باستطاعتنا الافتراض، من حيث المبدأ، تحسين التنبؤ وجعله دقيقا لدينا. وبعبارة أخرى، أتمنى أن لا تدحض فقط الحتمية العلمية، بل أن تدحض أيضاً أراء الذين يقولون بإن للحتمية ما يبررها من خلال الخبرة، وأنها ليس أكثر من مجرد إعطاء المشروعية لها. لقد دحضت أكثر حجة مهمة بالنسبة للحتمية التي تبين أنها لم تعقد جرعة في عالم الحتمية. من الواضح أن هذه الحجة لابد، من خلال تصحيحها، أن تكون متوافقة مع غيرها من أشكال الحتمية»(23). ويقول أيضاً :» إن الطريقة التي دحضت بها الحتمية العلمية يبدو لي للغاية مثيرة للاهتمام. ليس فقط بأنها تظهر أننا لا يمكن أن نحل محل قرارتنا الخاصة حول أعمالنا في مستقبل التوقعات العلمية، بل يظهر أيضاً أن الحجة القاطعة للاحتمية هو وجود المعرفة العقلية نفسها. نحن أحرار، ولسنا موضوعاً للصدفة والقوانين الطبيعية الصارمة، ولكن لأن ترشيد التقدمية في العالم، في محاولة للقبض على العالم في مرمى المعرفة له حدود، في أي لحظة، في نمو المعرفة ذاتها، بطبيعة الحال، هو أيضاً عملية تنتمي الى العالم»(24). بهذه الصورة وجدنا أن بوبر عرض مفهوم الحتمية العلمية عند لابلاس كنظرية ميتافيزيقية وكان لها تاثيرها في تطوير العلم وبناؤه عبر التاريخ وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون علماً، بل حاول بوبر ان يثبت فرضيته حول الدور الفعال للتصورات والنظريات الميتافيزيقية في بناء العلم والنظرية العلمية . ثانياً: الحتمية الميتافيزيقية: يمكن للمرء أن يلاحظ ببساطة أن الميتافيزيقا هو الموقف الذي تولد الواقعية، ويمكن ان نلخص العناصر الاساسية للميتافيزيقا في مجال المعرفة ب: 1.قبول الطلبات للحصول على التفسيرات التي يمكن ملاحظتها بشأن الامور الاساسية. 2.محاولة للرد على مثل هذه المطالب من خلال المضاربة حول الامور الغير قابلة للرصد. (25). فإذا كانت الميتافيزيقا هي ذلك الموقف لمعرفة الوقائع من منطلق القدرة على التنبؤ من خلال توقعاتنا المبنيىة على النظريات الميتافيزيقية، لابد أن يكون هناك نسخة من تلك الحتمية تسمى ب» الحتمية الميتافيزيقية» ، فتكون الاحداث أو الوقائع طبقاً لها محددة مسبقاً، وغير قابلة للتغاير بحيث أن المستقبل لا يمكن تعديله أكثر من الماضي المثبت الذي لا يمكن تغييره أيضاً.وهذه النسخة الميتافيزيقية للحتمية بمعيار التمييز البوبري هي طبعاً نظرية غير قابلة للتكذيب بالفعل حتى لو أن العالم يفاجئنا في كل لحظة فإن المستقبل سيكون محدداً مسبقاً وقابلاً للتنبؤ بالنسبة للذين هم قادرون على قراءة كتاب القدر أو المصير(26). لهذا يقول بوبر :» وهكذا فإن الحتمية الميتافيزيقية بسبب ضعفها هي متضمنة كذلك بواسطة الحتمية الدينية أكثر من الحتمية العلمية ويمكن وصفها كما لو كانت لا تحتوي إلا على ماهو مشترك لمختلف المذاهب الحتمية إنها غير قابلة للتفنيد بسبب ضعفها على وجه الدقة وهذا لا يعني ألا تكون هناك حجج ضدها أو لصالحها(27). إلا أن للحتمية الميتافيزيقية أساس يستمد منه حجته، وأساسها إما ديني أو مبني على الحتمية العلمية ولكن وجدنا ضعف الحتمية العلمية في قرارات وإنتقادات بوبر لها، وهذا يعني أيضاً أن الحتمية الميتافيزيقية ليس بمأمن عن تلك الانتقادات.واشار الى ذلك بقوله :» أستندت الحجة الرئيسية لصالح الحتمية الميتافيزيقية في الماضي إما على أساس ديني أو بناءاً على الايمان بالحتمية العلمية. ولدى بصورة غير مباشرة ،أن الحتمية الميتافيزيقية قوضت أيضاً. وعلاوة على ذلك، فإن الحجة القائلة بإن الحتمية يجب أن تحل عبـئ الاثبات لا تنطبق فقط على الحتمية العلمية بل على نسختها الميتافيزيقية أيضاً»(28). وقد عرض تصورات إينشتاين في هذا المجال بإنها مبنية على الحتمية الميتافيزيقية، لان حجج بوبر ضد الحتمية العلمية حتى لو كانت صحيحة، فإنها لن تهز إيماني بالحتمية الميتافيزيقية عندي، من هنا حاول بوبر شن هجوم مباشر على الحتمية الميتافيزيقية بسبب موقف أنيشتاين منها. حيث عبر بوبر عنها بقوله:» لقد حاولت في المرة الاولى وصف الحتمية الميتافيزيقية لإنشتاين وسميته (بارمنيدية) لإيمانه وإعتقاده بإن الكون كتلة بارمنيدية ذات أبعاد أربعة يكون فيها التغيير مجرد وهم أو شيئاً يشبهه»(29). من هنا رفض بوبر القول الذي يذهب إلى أن حجج الحتمية الميتافيزيقية لا يقبل النقد ولا يدع مجالاً للعقلانية، بل يرى أن هذا القول ينتج عنه سوء فهم بخصوص تلك الحجج وهي:. 1.إن حجة «هالدين» لا تنطبق بالضرورة على الحتمية الدينية، حيث ساعد على صلاحياته قوى المنطق، وكثيراً ما يكون قادراً على التنبؤ نتيجة للمداولات العقلانية في الطفل مما يقلل من عقلانية الطفل في الحصول على الوهم، حتى الله ربما قد علم مسبقاً من قرارتنا العقلانية دون تدمير العقلانية الخاصة بنا ما هي إلا فكرة التحديد المسبق من قبل قوانين الطبيعة التي تتحول إلى أن تكون غير متوافقة مع العقلانية(30. 2.يدل حجة « هالدين» على ان شكلاً من اشكال الحتمية الميتافيزيقية يستلزم الطابع الوهمى لسبب من الاسباب.وهذا يخلق صعوبة فقط لإولئك الذين يعتقدون بأن الاختلاف هو بين الحجة المنطقية وبين التلقين دون تمحيص، وهذا هو القول على سبيل العقلانية، بالنسبة لهم، قد يكون من الصعب التغلب عليها، ولكن قد ترى في حجة هالدين مجرد دحض للعقلانية اكثر من الحتمية. 3.يجب ألا تفسر حجة هالدين على انها لاعقلانية في أي مذهب حتمي ، أو إستحالة مناقشته مثل أي مذهب عقلاني، بل على العكس من ذلك، يثبت ذاته من خلال وجودها، أنه من الممكن أن يجادل حول الحتمية، لانه من المؤكد هناك حجة ضدها، وبالمثل ، نجد في هذا القسم أول محاولتين للدفاع عن الحتمية الميتافيزيقية ضد الادعاء الذي يرى بإنها لا يمكن الدفاع عنها وتبين أنه توجد حجج ليس فقط ضد الحتمية الميتافيزيقية ، بل أيضاً هناك حجج في الدفاع عنها»(31). هنا يصل بوبر من خلال عرضه لحجج هالدين في صالح الحتمية الميتافيزيقية إلى نتيجة فلسفية تعترف باستحالة دحض الحتمية الميتافيزيقية بصورة حاسمة، حيث يقول بوبر :» إن الحتمية الميتافيزيقية قابلة للجدل أو البرهنة بصورة مؤكدة. ويمكن القول أيضاً أن حجتها أو ضدها لا يمكن أن تكون حاسمة أبداً. تلك التي في صالحها يجب أن يكون حاسمة، لانه من المستحيل دحض وجود حدث محدد في العالم. ويمكن لتلك الحجج التي ضدها أن لا تكون حاسمة، فعلى سبيل المثال ، لا يمكننا دحض وجود الروح التي يحصل على المعرفة الكاملة عن العالم من دون وجود العالم»(32). والسؤال الذي يطرح ذاته، خصوصاً بعد أن عرضنا مفهوم الحتمية الميتافيزيقية من وجهة نظر بوبر ألا وهي ، هل يمكن أن نحصل على معرفة حول العالم من دون تلك الحتمية؟. ولما كانت التصورات الميتافيزيقية قابلة للجدل والنقد العقلاني كما يدعي بوبر، فلابد أن يكون لها ذلك الدور في الحصول على المعرفة، وهذا بخلاف ما تقوله الوضعية المنطقية في إتهامها للميتافيزيقا ووصفها كعقبة امام التطور المعرفي للعلم. ولكن موقف الوضعية هنا ضعيف للغاية، لإننا نرى أن إهتمامات ميتافيزيقا العلوم هي في وصف النظريات العلمية لإجزاء من العالم (الغير قابلة للرصد)، سواء كان ذلك بشكل صريح أو بصورة ضمنية، فالطرق المحددة في نظرية المعرفة للعلوم تستخدم لتوليد الادعاءات العلمية، ولابد من منهج يقدم تبريرات لتلك الادعاءات التي تشكل المعرفة (التصورات الميتافيزيقية). ولكن هذا الدور الذي كان على الميتافيزيقا ان تقوم به قد إهمل تحت تأثير الفلسفة الوضعية المنطقية في اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الذي أثر في إهمال الاسئلة الميتافيزيقية المتعلقة بالعلم (33).أي لايمكن أن نحسم بصورة قاطعة صحة ما كان يدعيه فلاسفة العلم من التيار الوضعي المنطقي عن الميتافيزيقا وتصوراتها عن العالم والكون، ولاسيما بعد التطورات والتغييرات الذي حصلت في مجال العلوم، بعد ظهور نظريات علمية خالفت النظرة الوضعية الى العالم والطبيعة، مما دفع بفلاسفة أخرين من تيارات أخرى إلى إعادة النظر في مسألة ما إذا كانت للتصورات الميتافيزيقية أهمية في هذا المجال، وهذا ما وجدناه عند بوبر في دفاعه عن الدور الفعال للنظريات الميتافيزيقية في بناء العلم، وقد أستعرض بوبر في كتابه « نظرية الكوانتا والانشقاق في الفيزياء» تاريخ الفيزياء والبرامج الميتافيزيقية وتأثيرها في بناء العلم. المبحث الثاني:. اللاحتمية كنظرية ميتافيزيقية. مع بداية القرن العشرين وظهور نظريات علمية جديدة عن الكون والطبيعة تغيرت معها تصوراتنا ومعرفتناعن العالم، فلم يعد الكون ذلك المعمل البسيط الذي رسمه نيوتن ببراعته العقلية. فبرزت نظريات جديدة تتكلم عن الكون الكبير جداً الذي تقاس وحداته الصغرى بملايين السنوات الضوئية. وكذلك الكون الصغير جداً الذي نسمع عن جسيماته المتناهية في الصغر، ولانكاد نراها.وبدأ التفسير الآلي بحتميته يتداعى أمام تفسيرات أخرى بمبدأ الاحتمال والنظريات الاحصائية.فبالنسبة للكون الصغير، فقد تبين للعلماء منذ ان قدم « دالتون» تفسيره الجزيئي للمادة، وبخاصة بالنسبة للغازات المختلفة في حركة جزيئاتها لا تطيع القوانين النيوتونية.أما بالنسبة لمستوى ادق من المادة هو عالم الجسيمات دون الذرية. فقد تبين للعلماء أن فكرة المسار النيوتونية التي يستند اليها مبدأ الحتمية الالي، لا تنطبق على سلوك الالكترونات. والمقصود بالمسار هو تحديد موضع وسرعة واتجاه حركة الجسم المتحرك . ولكن من المستحيل أن يجتمع للالكترون قياسيين دقيقين للموضع والسرعة معاً (34). فعدم تحديد موضع واتجاه وسرعة حركة الجسيمات دليل على ان اللاحتمية نظرية ميتافيزيقية، لانها مبنية على أساس الاحتمالية والامكانية في تصورنا عن العالم بعكس الحتمية القائلة، بإن الكون لها صورة واحدة يمكن معرفتها بمعرفتنا لماضيها وحاضرها سوف تكتشف صورتها في المستقبل. ولكن اللاحتمية ترى العكس،بإن هناك أكثر من صورة ومخطط للعالم، وقد عبر عنها بوبر بقوله :» بالامكان أن نرسم صورة جديدة للعالم الفيزيائي من خلال النزعة اللاحتمية والتأملية، وتكون هذه الصورة بالنسبة للعالم أقرب مخطط لها من كل تلك الاحتمالات التي أصبحت لدينا عن العالم الفيزيائي . ويمكن أن يفترض الحالة الحقيقية للنظام الفيزيائي في هذه اللحظة كفرضية كلية من تلك الاحتمالات أو خيبات الامل. وأن التغيير بالنسبة لهذه الصورة يكمن في الصورة الواقعية لبعض هذه الاحتمالات. وهذه الحقائق في إنعطافها تتألف مجدداً من خيبة أمل أخرى، فهناك إختلاف من خلال الذي نعلمه أو ندركه نحن. وهذه الفكرة ترجع إلى الحس المشترك ووجهة نظرنا عن العالم»(35). أي أن بوبر يرفض من خلال تصوره اللاحتمي عن العالم، فكرة الثبات وسكونية العالم وهي أيضاً تصور ميتافيزيقي يرجع جذورها إلى فلسفة «بارمنيدس» ،ولكن بوبر يؤمن بإن صورة العالم في تغيير مستمر، أي لايظل على صورة واحدة إلى الابد من ناحيتها المعرفية(معرفتنا عن العالم في تغيير مستمر)، أو معرفتنا عن العالم ليس لها صورة واحدة وهذا ما عبر عنه بوبر بقوله :» من الممكن وصف العالم الفيزيائي بإنه يتألف من أو يكمن في « تغير الامكانيات» أي تكون قابلة للتغيير، وهذه الامكانيات بصورة عامة غير محددة للتغيرات في المستقبل، بل يمكن أن نحدده في بعض الحقول في المجال الفيزيائي على الاقل والذي يساهم فيها الاحتمالية ويمكن أن يتضمن إحتمالات متساوية لتنوع متغيرات ممكنة في المستقبل»(36). نفهم من هذا إذا كان العالم غير ثابت وفي حالة صيرورة مستمرة، فهذا يعني أنه في حالة تقتح دائم مع العوالم الاخرى ولايمكن إختزاله في ظاهرة أو حدث ما ، هنا نجد أن بوبر يقول :» في الواقع ، يميل معظم علماء الفيزياء إلى القول بإن الكون المادي كوناً مفتوحاً، أي أن الكون المادي هو فتح لتأثير العالم الثاني. وأصبح هذا الاعتقاد شكلاً من أشكال اللاحتمية، أي أصبح جزءاً من العقيدة الرسمية للفيزياء. حيث قدم ميكانيكا الكم اللاحتمية في صورة جديدة ، والذي يفترض فرصة إمكانية الاحداث الابتدائية التي هي غير قابلة للاختزال سببياً»(37). ولكن هذه الاعتقادات التي تفترضها نظرية اللاحتمية هل هي قابلة للتأكد من صحتها أم لا ؟ إننا نعلم أن إعتقادات وتكهنات اللاحتمية الميتافيزيقية غير قابلة للرصد بالمرة لانها تتناول عالم ليس في متناول الحس، وبالتالي لا يمكن أن نتحقق منها إن كانت صحيحة أو خاطئة .وهذا ما ذهب اليه أصحاب الوضعية المنطقية عندما رفضوا الميتافيزيقا وتصوراتها عن العالم، إلا أن بوبر لا يهمها صحة أو خطأ تلك التصورات بقدر ما يهمه بإنها تقدم تصورات عن العالم يمكن أن يتأسس وفقاً لها العلم، وهذا ما لاحظناه في إهتمامات ميتافيزيقا العلوم في مجال معرفة العالم.أيضاً اللاحتمية الميتافيزيقية في جزء منها نظرية غير قابلة للتكذيب وكل ما يمكن فعله هو فحص الحجج المؤيدة للحتمية. فاللاحتمية أيضاً تستند على مبدأ ميتافيزيقي غير قابل للاختبار كما يقول بوبر :» وبنفس الطريقة فإن اللاحتمية الميتافيزيقية هي بدورها، لا يمكن إختبارها ،لإنه حتى ولو أن العالم عرض علينا مظهراً منتظماَ كلية ومحدداً مسبقاً فإن هذا لا يبرهن أن ليس هناك أحداثاً أو وقائع غير محددة مسبقاً من أي طبيعة كانت»(38). إذن اللاحتمية هي نظرية ميتافيزيقية تقدم تصوراتها لتفسير الظواهر الطبيعية والكونية. وهي محاولة لإدخال مفاهيم الفطرة السليمة مثل الجسيمات والمسارات التي تنطوي بالطبع على الجسيم المتحرك في مسار تكون له في لحظة إحداثيات محددة ومركبات محددة للسرعة. ولكي نحصل على نتائج ميكانيكا الامواج بواسطة وصف سلوك الجسيمات علينا أ ن نستخدم مفاهيم مثل» لاحتمية الاحداثيات» أو « متوسط عدد إصطدامات الجسيم بمنطقة معينة من الستار»، وتختلف هذه القوانين الخاصة بسلوك الجسيمات بطبيعة الحال إختلافاً كبيراً عن القوانين النيوتونية وكذلك عن أفكارنا الفطرية السليمة بشأن الجسيمات»(39).ولكن هذا يدفعنا إلى ان نطرح سؤالا يتعلق بوجود قوانين تحكم الكون والطبيعة بصورة مظبوطة ومنتظمة، فهل بوبر يقتنع بوجود مثل هذه القوانين؟لان القول بمبدأ اللاحتمية تعني أن العالم لا يسير وفقاً لتلك القوانين ،فإن كان هذا صحيحاً ، فماذا نقول عن حالات الانتظام الكوني التي نلاحظها؟ وإما نحن لم ندرك بعد حقيقة تلك القوانين الكونية الذي بمقتضاه يتحرك الكون؟ بهذا الخصوص نجد أن بوبر يقول :» نحن نعتبر السؤال التالي: هل تحكم الكون قوانين مظبوطة أم لا ؟ سؤالاً ميتافيزيقياً . لان القوانين التي نكتشفها هي على الدوام فرضيات نستطيع على الدوام أيضاً تجاوزها، كما نستطيع إستنتاجها من تقويمات إحتمالية.غير أن إنكار السببية لا يعدو كونه محاولة لإقناع الباحث بالعدول عن بحثه وقد بينا اعلاه ان هذه المحاولة لا ترتكز على أي حجة مقبولة.إن لما يسمى « بالمبدأ السببي» مهما تكن صيغته صفات تميزه كلياً عن القوانين الطبيعية. ولذا يجب علينا معارضة شليك الذي يقول :» يمكن إختبار صحة القانون السببي على نفس النحو الذي نختبر فيه أي قانون طبيعي»(40). من هنا يقدم بوبر سبباً هاماً لقبول اللاحتمية على الاقل بصفة مؤقتة وقوة حجة هذا السبب يعود إلى الحتمية نفسها، فالحجج الوحيدة ذات قوة ما في صالح الحتمية، هي الحجج التي تقدمها الحتمية العلمية وزيادة مع الاخذ بعين الاعتبار، أن حجج الحس المشترك التي هي في صالح الحتمية العلمية، تبدو منهارة في اللحظة التي تواجه فيها مع مشكلة المسؤولية وهكذا يبدو أن الحس المشترك يشهد لصالح اللاحتمية وهناك أسباب عديدة كما يقول بوبر تسمح له بتأكيد أن ثقل الحجة يفرض على المتشيع للحتمية ويذكر منها أربعة أسباب هي : 1. يؤيد الحس المشترك غير الدقيق، التمييز ما بين الساعات والسحب ويؤكد إذن أن بعض الاحداث هي أكثر قابلية للتنبؤ وأخرى أقل قابلية للتنبؤ بمعنى أن التحديد المسبق والتنبؤ به هي مسألة درجة. 2. من المعقول للوهلة الاولى أن الاجهزة العضوية الحية هي أقل قابلية لتحديد مسبق وأقل قابلية لتنبؤ به من بعض الانساق البسيطة على الاقل، وأن الاجهزة العضوية العليا هي أقل قابلية للتحديد المسبق وأقل قابلية للتنبؤ به من الاجهزة العضوية الدنيا.فالقندس أو البشر ينجون في بيئتهم الفيزيائية من تغييرات مميزة وظاهرة وبدون شك فإن المحيط أو البيئة يمكنها بصفة متبادلة إنتاج تغييرات، مميزة وظاهرة لدى القنادس ولدى البشر لكن هذا ليس كافياً وبعيد جداً لترسيخ صدق الحتمية(41). 3.إذا كان المذهب الحتمي صحيحاً فإنه يتوجب أن يكون بإمكان فيزيائي أو عالم فيزيولوجي يجهل كل شي عن الموسيقى التنبؤ بواسطة دراسة لمخ موزارت ، بالاماكن التي على الورق التي ستلمسها ريشة موزارت زيادة على وجوب قدرة الفيزيائي والفيزيولوجي على إستباق فعل موزارت!! أو كتابة سمفونية حتى قبل أن يتصورها هو عن وعي!! ويصدق هذا على الاكتشافات الرياضية كما يصدق على كل إكتشاف علمي وإن كان رجلاً مثل كانط كان مجبراً ضمنياً بواسطة هذه المبادئ الحتمية على تأييد مثل هذه النتائج وهي نتائج يعتبرها بوبر غير مقبولة حدسياً، ومهما كان الامر فإنها تتجاوز بكثير حدود معرفتنا الحالية. 4.إن اللاحتمية التي تقول أن هناك على الاقل حدث ليس محدداً مسبقاً أو قابلاً للتنبؤ هو بدون شك تأكيد أضعف من تأكيد المذهب الحتمي العلمي الذي يؤيد أن كل حادث هو قابل للتنبؤ من حيث المبدأ وإذا كان هذا صحيحاً فإننا نفضل النظريات الاقوى على النظريات الاضعف فمرد هذا لانها تسمح ببناء الحجة، أي تسمح بالنقد، دائماً الذي يقترح النظرية الاقوى، فإنه يقبل بثقل الدليل إنه يتوجب عليه الادعاء بحجج لتأييد نظريته بإظهاره في الاهم قدرتها التفسيرية، لكن كما يلاحظ بوبر :» فإن الحتمية العلمية ، أم لا ، لا تنتمي البتة إلى العلم وليس لها أية قدرة تفسيرية»(42). الخاتمة: لقد تناولنا في بحثنا هذا مفهوم الحتمية واللاحتمية في فلسفة العلم عند كارل بوبر, وتوصلنا الى ان النظريات العلمية لا يمكن بنائها من دون التصورات الميتافيزيقية, حيث تعد الحتمية واللاحتمية من النظريات الميتافيزيقية ذات التصورات العامة للوجود, وبالاعتماد على تلك النظريات يمكن لنا ان نبني نظريات علمية عن الوجود, وهذا ما دافع عنه كارل بوبر على ضوء النظريات العلمية المعاصرة. حيث تناولنا موقف كارل بوبر من دور النظريات الحتمية واللاحتمية في بناء النظرية العلمية, حيث اكد بوبر بأن للتصورات الميتافيزيقية دور في بناء العلم وفقاً للتصور الكلاسيكي للوجود ذات النزعة الحتمية, والتصور المعاصر للوجود ذات النزعة اللاحتمية. وقد انتقد بوبر الحتمية العلمية والحتمية الميتافيزيقية وأيد اللاحتمية كنظرية ميتافيزيقية في بناء العلم على ضوء العلم المعاصرة. ------------------------- مقتبس... (1). الشنيطي، محمد فتحي، أسس المنطق والمنهج العلمي،دار النهضة العربية، بيروت،1970،ص189. (2). المصدر نفسه، ص 190.191. (3).محمد،بدوي عبد الفتاح، فلسفة العلوم الطبيعية، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، الاردن،ط1، 2011، ص 317. (4).محمد،بدوي عبدالفتاح، فلسفة العلوم الطبيعية، المصدر السابق، ص 321. (5). Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism.EditedBy W.W.Bartley.III,1982,p123.124. (6).دالمديكو،أمي داهان،شابير،جان لوك، الفوضى والحقيقة، ترجمة،هاني حداد،وزارة الثقافة السورية،2002، ص 361. (7). المصدر نفسه، ص 365. (8).Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism.op.cit.p.4 (9).op.cit.p 124 (10).op.cit.p 31.32 (11).op.cit.p 5 (12).بوبر،كارل،بؤس الايديولوجيا، ترجمة،عبدالحميد صبرة، دار الساقي، بيروت، ط1، 1992، ص 9. (13).Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism,op.cit. p 36 (14).مذبوح،لخضر،فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر، منشورات الاختلاف، الجزائر،ط1، 2009، ص 237. (15).المصدر نفسه، ص 233. (16).Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism,op.cit. p 33.34 (17).مذبوح،لخضر،فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر،المصدر السابق، ص 241.242. (18).Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism, p 45 (19).op.cit.p 89 (20).مذبوح،لخضر،فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر،المصدر السابق،ص 230. (21).بوبر،كارل،بؤس الايديولوجيا،ترجمة،عبدالحميد صبرة، دار الساقي، بيروت، ط1، 1992، ص 118.119. 22.Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism, p 77.79 23.op.cit.p 79.80 .24.op.cit.p 81 25.A metaphysics for scientific realism, ANJAN CHAKRAVARTTY.P 18 (26).مذبوح،لخضر،فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر،المصدر السابق،ص 230. (27).1.Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism, p 7 .28.op.cit.p 89 .29.op.cit.,p 90 .30. Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism,op.cit. p. 87 .31.op.cit., p. 88 32.Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism,op.cit. p 88 33.A metaphysics for scientific realism, ANJAN CHAKRAVARTTY.P 25 (34).محمد،بدوي عبدالفتاح، فلسفة العلوم الطبيعية، المصدر السابق، ص 322.323. 35. Popper,K.R,QUANTUM THEORY AND THE SCHISM IN PHYSICS.op.cit.p.160 .36 op.cit. p. 160 37.Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism, p 124 38.op.cit. p 7 (39).فرانك،فليب، فلسفة العلم الصلة بين العلم والفلسفة،ترجمة،علي علي ناصف،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،ط1، 1983، ص 298. (40).بوبر،كارل، منطق البحث العلمي، المصدر السابق، ص 269. Karl Popper, The Open Univers An Argument For Indeterminism, (41) p 23 (42).مذبوح،لخضر،فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر،المصدر السابق،ص 239.ويمكن الرجوع الى حجج بوبر لتاييد اللاحتمية من نفس المصدر، ص 249.250.
العدد الثاني من مجلة أقواس
ربيع 2013
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقتبس...
|
قصيدة الطلاسم .. للشاعر ايليا ابو ماضي
كم انت رائع وجميل
وهذا الاحساس المطلسم كاد ان يكون من طين
لولا روحك الفذة وعطر النسيم..؟؟؟
الجدل حول المثنوية
أن أكثر البراهين استخداما في ءاثبات صحة المثنوية هي أنها مستمدة من بداهة الفكر السليم الذي يلاقيه الوعي وذلك ما يميزه عن المادة الغير حية. فإذا سألت أشخاص عاديين عن ماهية العقل، فإنه سيجيبونك عن طريق تعريفه من ذاتهم وشخصيتهم وروحهم أو من خلال بعض العوامل الداخلية من هذا القبيل. ومن المؤكد أنهم سينكرون أن العقل مجرد دماغ.العديد من فلاسفة العقل المعاصرين يزعمون ان تلك البديهيات مضللة, ولذلك يجب علينا استخدام ملكتنا النقدية بجانب البراهين المثيتة من العلوم
لكى ندرس تلك الأفتراضات ونقرر ان كان لها أساس علمى ام لا..؟؟؟
ــــــــــــــــــــــ
مقتبس...
مقارنة مع الأجناس الأخرى
كانت هناك محاولات مختلفة لتحديد سمة سلوكية واحدة تميز الإنسان من بين جميع الحيوانات الأخرى. فيعتقد الكثير من علماء الأنثروبولوجيا أن السمات التي يسهل ملاحظتها (صناعة الأدوات واللغة) تعتمد على عملية عقلية يسهل ملاحظتها بدرجة أقل بحيث قد تكون فريدة بين بني الإنسان: القدرة على التفكير بطريقة رمزية، من الناحية المجردة أو المنطقية، هذا على الرغم من أن بعض الأجناس قد أظهرت بعض القدرات في تلك النواحي. ولا يتضح أيضا عن أي مرحلة على وجه التحديد من مراحل تطور الإنسان أصبحت تلك السمات سائدة. قد لا تكون تلك السمات قاصرة على جنس الإنسان، فالأجناس المنقرضة من جنس الإنسان (مثل نياندرتال والإنسان المنتصب) يعتقد أيضا أنها كانت أهلا لصناعة الأدوات وكانت لديهم أيضا مهارات لغوية.
يعد التفكير في بيئة التعلم جزء مهما من دائرة الاستمرار حتى يمكن تحقيق أقصى استفادة من التجارب المكتسبة. فبدلا من المضي قدما إلى المهمة التالية، يمكننا مراجعة عملية المهمة ونتائجها - وبعد مرور وقت قصير، يمكننا إعادة التفكير في قيمة التجربة بالنسبة لنا وبالنسبة للسياق الذي كنا فيه..؟؟؟
ــــــــــــــــــــــــ
مقتبس...
الإدراك الحسي والواقع
العديد من علماء النفس الاستعرافيين يصرحون أننا كبشر، عندما نتجول في العالم المحيط بنا، إنما نبني نموذجنا الخاص لكيفية سير هذا العالم. نحن نحس بعالمنا الموضوعي الحقيقي، لكن إحساساتنا يتم إسقاطها (تحويلها) إلى مدرَكات مؤقتة احتياطية provisional، كما نكون العديد من الفرضيات العلمية المؤقتة لحين إثباتها أو دحضها.
عندما نستقبل معلومات حسية جديدة، تتغير مدركاتنا وفقا لها. أبراهام بايز كان يؤكد دوما على هذه الطبيعة اللدنة للخيال الإنساني. في حالة الإدراك الحسي يمكن لبعض الناس أن يروا حقيقة التغير في المدرك البصري بما يمكن أن نسميه عيون عقلية. لكن الأشخاص الآخرين الذين لا يتمتعون بتفكير صوري لا يمكنهم أن يحسوا perceive حقيقةً بتغير الشكل المرافق لتغير عالمهم. أحد أمثلة هذه الحالة هي الصور الملتبسة ambiguous image التي تملك أكثر من تفسير على المستوى الإدراكي.
في هذه الحالة نملك جسما واحدا يمكن ان ينتج أكثر من مدرك واحد، بالتالي يمكن ان نجد أن جسما ما يمكن ألا ينتج أي مدرك على الإطلاق : إذا كان المدرك غير موجود أساسا ضمن خبرة الشخص، وعندئذ يمكن للشخص ألا يدركه إطلاقا.
هذه الطبيعة الملتبسة المحيرة للإدراك الحسي يمكن أن تظهر في بعض التقنيات الحيوية التي تستخدمها الأحياء في الطبيعة
مثل : التقليد والتمويه. إدراك حسي..؟؟؟
ـــــــــــــــــــــــــ
مقتبس...
الخميس، 24 أكتوبر 2013
هكذا يتحدث العقاد
لست أهوى القراءة لأكتب، ولا لأزداد عملا في تقدير الحساب، إنما أهوى القراءة لأن لي في هذهِ الدنيا حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة.
القراءة وحدها هي التي تعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة، لأنها تزيد هذهِ الحياة عمقا، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب. فكرتك أنت فكرة واحدة، شعورك أنت شعور واحد، خيالك أنت خيال فرد واحد إذا قصرته عليك، ولكنك إذا لا قيت بفكرتك فكرة أخرى، ولاقيت بشعورك شعور آخر، ولاقيت بخيالك خيال غيرك، فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين، وأن الشعور يصبح شعورين، وأن الخيال يصبح خيالين .. كلا .. وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات الفكر في القوة والعمق والامتداد" ..؟؟؟
عباس محمود العقاد...
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الأربعاء، 23 أكتوبر 2013
الثلاثاء، 22 أكتوبر 2013
ألأنسان
قالـــــــــوا
" الإنسان... كائن خاضع لمجموعة من الحتميات تشرطه كليا: ففكره، و أفعاله، و سلوكه هي منتوجات لقوانين الكون(الفيزياء)، و لقوانين الجماعة(المجتمع) و لقوانين الفكر الرمزي(الثقافة). و على النقيض من الوهم الشائع اليوم، فالعلم و التقنية بدل أن يحررا الإنسان من الحتميات الكونية، فإنهما لم ينجحا إلا في جعله أكثر وعيا بقوة هذه الحتميات. و حتى في القديم، أي عصر هيمنة الأسطورة، لم يكن الإنسان أكثر حرية مما هو اليوم، بل كانت صفته الإنسانية نفسها تجعل منه عبدا. و بما أن سلطته على الطبيعة كانت محدودة... فهو لم يكن حرا حتى في أحلامه و أساطيره..."
ــــــــــــــــــــ
مقتبس...
" الإنسان... كائن خاضع لمجموعة من الحتميات تشرطه كليا: ففكره، و أفعاله، و سلوكه هي منتوجات لقوانين الكون(الفيزياء)، و لقوانين الجماعة(المجتمع) و لقوانين الفكر الرمزي(الثقافة). و على النقيض من الوهم الشائع اليوم، فالعلم و التقنية بدل أن يحررا الإنسان من الحتميات الكونية، فإنهما لم ينجحا إلا في جعله أكثر وعيا بقوة هذه الحتميات. و حتى في القديم، أي عصر هيمنة الأسطورة، لم يكن الإنسان أكثر حرية مما هو اليوم، بل كانت صفته الإنسانية نفسها تجعل منه عبدا. و بما أن سلطته على الطبيعة كانت محدودة... فهو لم يكن حرا حتى في أحلامه و أساطيره..."
ــــــــــــــــــــ
مقتبس...
الجمعة، 18 أكتوبر 2013
القنـاعـة
القناعة هي الرضا بما قسم الله، ولو كان قليلا، وهي عدم التطلع إلى ما في أيدي الآخرين، وهي علامة على صدق الإيمان. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقَنَّعه الله بما آتاه) [مسلم].
قناعة الرسول صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم يرضى بما عنده، ولا يسأل أحدًا شيئًا، ولا يتطلع إلى ما عند غيره، فكان صلى الله عليه وسلم يعمل بالتجارة في مال السيدة
خديجة -رضي الله عنها- فيربح كثيرًا من غير أن يطمع في هذا المال، وكانت تُعْرَضُ عليه الأموال التي يغنمها المسلمون في المعارك، فلا يأخذ منها شيئًا، بل كان يوزعها على أصحابه.
وكان صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير، فرآه الصحابة وقد أثر الحصير في جنبه، فأرادوا أن يعدوا له فراشًا لينًا يجلس عليه؛ فقال لهم: (ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها).
[الترمذي وابن ماجه]..
يحكى أن ثلاثة رجال ساروا في طريق فعثروا على كنز، واتفقوا على تقسيمه بينهم بالتساوي، وقبل أن يقوموا بذلك أحسوا بالجوع الشديد، فأرسلوا أحدهم إلى المدينة ليحضر لهم طعامًا، وتواصوا بالكتمان، حتى لا يطمع فيه غيرهم، وفي أثناء ذهاب الرجل لإحضار الطعام حدثته نفسه بالتخلص من صاحبيه، وينفرد هو بالكنز وحده، فاشترى سمًّا ووضعه في الطعام، وفي الوقت نفسه، اتفق صاحباه على قتله عند عودته؛ ليقتسما الكنز فيما بينهما فقط، ولما عاد الرجل بالطعام المسموم قتله صاحباه، ثم جلسا يأكلان الطعام؛ فماتا من أثر السم.. وهكذا تكون نهاية الطامعين وعاقبة الطمع..؟؟؟{القناعة كنز لايفنى}..
وفي الحديث القدسي: (يابن آدم تفرغْ لعبادتي أملأ صدرك غِنًى، وأَسُدَّ فقرك. وإن لم تفعل، ملأتُ صدرك شُغْلا، ولم أسُدَّ فقرك) [ابن ماجه].
وقال أحد الحكماء: سرور الدنيا أن تقنع بما رُزِقْتَ، وغمها أن تغتم لما لم ترزق، وصدق القائل:هـي القنـاعة لا تـرضى بهــا بـدلا **فيهــا النعيـم وفيهــا راحـة البـدنِ
انظـر لمـن ملــك الدنيـا بأجمـعـها **هـل راح منها بغيــر القطـن والكفـنِ..؟؟؟
ـــــــــــــــــــ
مقتبس...
ألأخــلاص
الإخلاص هو أن يجعل المسلم كل أعماله لله -سبحانه- ابتغاء مرضاته، وليس طلبًا للرياء والسُّمْعة؛ فهو لا يعمل ليراه الناس، ويتحدثوا عن أعماله، ويمدحوه، ويثْنُوا عليه.
الإخلاص واجب في كل الأعمال:
على المسلم أن يخلص النية في كل عمل يقوم به حتى يتقبله الله منه؛ لأن
الله -سبحانه- لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه تعالى. قال تعالى في كتابه: {وما أمروا إلا يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} [البينة: 5]. وقال تعالى: {ألا لله الدين الخالص} [الزمر: 3]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابْتُغِي به وجهُه) [النسائي].
والإخلاص صفة لازمة للمسلم إذا كان عاملا أو تاجرًا أو طالبًا أو غير ذلك؛ فالعامل يتقن عمله لأن الله أمر بإتقان العمل وإحسانه، والتاجر يتقي الله في تجارته، فلا يغالي على الناس، إنما يطلب الربح الحلال دائمًا، والطالب يجتهد في مذاكرته وتحصيل دروسه، وهو يبتغي مرضاة الله ونَفْع المسلمين بهذا العلم.
الإخلاص صفة الأنبياء:
قال تعالى عن موسى -عليه السلام-: {واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصًا وكان رسولاً نبيًا} [مريم: 51]. ووصف الله -عز وجل- إبراهيم وإسحاق ويعقوب -عليهم السلام- بالإخلاص، فقال تعالى: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار . إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار . وإنهم عندنا من المصطفين الأخيار} [ص: 45-47].
يحكى أنه كان في بني إسرائيل رجل عابد، فجاءه قومه، وقالوا له: إن هناك قومًا يعبدون شجرة، ويشركون بالله؛ فغضب العابد غضبًا شديدًا، وأخذ فأسًا؛ ليقطع الشجرة، وفي الطريق، قابله إبليس في صورة شيخ كبير، وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟
فقال العابد: أريد أن أذهب لأقطع الشجرة التي يعبدها الناس من دون الله. فقال إبليس: لن أتركك تقطعها.
وتشاجر إبليس مع العابد؛ فغلبه العابد، وأوقعه على الأرض. فقال إبليس: إني أعرض عليك أمرًا هو خير لك، فأنت فقير لا مال لك، فارجع عن قطع الشجرة وسوف أعطيك عن كل يوم دينارين، فوافق العابد.
وفي اليوم الأول، أخذ العابد دينارين، وفي اليوم الثاني أخذ دينارين، ولكن في اليوم الثالث لم يجد الدينارين؛ فغضب العابد، وأخذ فأسه، وقال: لابد أن أقطع الشجرة. فقابله إبليس في صورة الشيخ الكبير، وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال العابد: سوف أقطع الشجرة.
فقال إبليس: لن تستطيع، وسأمنعك من ذلك، فتقاتلا، فغلب إبليسُ العابدَ، وألقى به على الأرض، فقال العابد: كيف غلبتَني هذه المرة؟! وقد غلبتُك في المرة السابقة! فقال إبليس: لأنك غضبتَ في المرة الأولى لله -تعالى-، وكان عملك خالصًا له؛ فأمَّنك الله مني، أمَّا في هذه المرة؛ فقد غضبت لنفسك لضياع الدينارين، فهزمتُك وغلبتُك..؟؟؟
ــــــــــــــــــ
مقتبس
الصـــدق
الصدق هو قول الحق ومطابقة الكلام للواقع. وقد أمر الله -تعالى- بالصدق، فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 119]...
"يحكى أن رجلا كان يعصي الله -سبحانه- وكان فيه كثير من العيوب، فحاول أن يصلحها، فلم يستطع، فذهب إلى عالم، وطلب منه وصية يعالج بها عيوبه، فأمره العالم أن يعالج عيبًا واحدًا وهو الكذب، وأوصاه بالصدق في كل حال، وأخذ من الرجل عهدًا على ذلك، وبعد فترة أراد الرجل أن يشرب خمرًا فاشتراها وملأ كأسًا منها، وعندما رفعها إلى فمه قال: ماذا أقول للعالم إن سألني: هل شربتَ خمرًا؟ فهل أكذب عليه؟ لا، لن أشرب الخمر أبدًا.
وفي اليوم التالي، أراد الرجل أن يفعل ذنبًا آخر، لكنه تذكر عهده مع العالم بالصدق. فلم يفعل ذلك الذنب، وكلما أراد الرجل أن يفعل ذنبًا امتنع عن فعله حتى لا يكذب على العالم، وبمرور الأيام تخلى الرجل عن كل عيوبه بفضل تمسكه بخلق الصدق"..؟؟؟
ـــــــــــــــــــــ
مقتبس...
أرق على أرق
" وَجَوًى يَزيدُ وَعَبرَةٌ تَتَرَقرَقُ
جَهدُ الصَبابَةِ أَن تَكونَ كَما أُرى "
" عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وَقَلبٌ يَخفِقُ
ما لاحَ بَرقٌ أَو تَرَنَّمَ طائِرٌ "
" إِلا اِنثَنَيتُ وَلي فُؤادٌ شَيِّقُ
جَرَّبتُ مِن نارِ الهَوى ما تَنطَفي "
" نارُ الغَضى وَتَكِلُّ عَمّا تُحرِقُ
وَعَذَلتُ أَهلَ العِشقِ حَتّى ذُقتُهُ "
" فَعَجِبتُ كَيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
وَعَذَرتُهُمْ وَعَرَفتُ ذَنبِيَ أَنَّني "
" عَيَّرتُهُمْ فَلَقيتُ فيهِ ما لَقوا
أَبَني أَبينا نَحنُ أَهلُ مَنازِلٍ "
" أَبَدًا غُرابُ البَينِ فيها يَنعَقُ
نَبكي عَلى الدُنيا وَما مِن مَعشَرٍ "
" جَمَعَتهُمُ الدُنيا فَلَم يَتَفَرَّقوا
أَينَ الأَكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى "
" كَنَزوا الكُنوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا
مِن كُلِّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بِجَيشِهِ "
" حَتّى ثَوى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيِّقُ
خُرسٌ إِذا نودوا كَأَن لَم يَعلَموا "
" أَنَّ الكَلامَ لَهُم حَلالٌ مُطلَقُ
وَالمَوتُ آتٍ وَالنُفوسُ نَفائِسٌ "
" وَالمُستَغِرُّ بِما لَدَيهِ الأَحمَقُ
وَالمَرءُ يَأمُلُ وَالحَياةُ شَهِيَّةٌ "
" وَالشَيبُ أَوقَرُ وَالشَبيبَةُ أَنزَقُ
وَلَقَد بَكَيتُ عَلى الشَبابِ وَلِمَّتي "
" مُسوَدَّةٌ وَلِماءِ وَجهِيَ رَونَقُ
حَذَرًا عَلَيهِ قَبلَ يَومِ فِراقِهِ "
" حَتّى لَكِدتُ بِماءِ جَفنِيَ أَشرَقُ
أَمّا بَنو أَوسِ بنِ مَعنِ بنِ الرِضا "
" فَأَعَزُّ مَن تُحدى إِلَيهِ الأَينُقُ
كَبَّرتُ حَولَ دِيارِهِم لَمّا بَدَت "
" مِنها الشُموسُ وَلَيسَ فيها المَشرِقُ
وَعَجِبتُ مِن أَرضٍ سَحابُ أَكُفِّهِمْ "
" مِن فَوقِها وَصُخورُها لا تورِقُ
وَتَفوحُ مِن طيبِ الثَناءِ رَوائِحٌ "
" لَهُمُ بِكُلِّ مَكانَةٍ تُستَنشَقُ
مِسكِيَّةُ النَفَحاتِ إِلا أَنَّها "
" وَحشِيَّةٌ بِسِواهُمُ لا تَعبَقُ
أَمُريدَ مِثلِ مُحَمَّدٍ في عَصرِنا "
" لا تَبلُنا بِطِلابِ ما لا يُلحَقُ
لَم يَخلُقِ الرَحمَنُ مِثلَ مُحَمَّدٍ "
" أَبَدًا وَظَنّي أَنَّهُ لا يَخلُقُ
يا ذا الَّذي يَهَبُ الجَزيلَ وَعِندَهُ "
" أَنّي عَلَيهِ بِأَخذِهِ أَتَصَدَّقُ
أَمطِر عَلَيَّ سَحابَ جودِكَ ثَرَّةً "
" وَاِنظُر إِلَيَّ بِرَحمَةٍ لا أَغرَقُ
كَذَبَ اِبنُ فاعِلَةٍ يَقولُ بِجَهلِهِ "
" ماتَ الكِرامُ وَأَنتَ حَيٌّ تُرزَقُ ..؟؟
لــ ابو الطيب المنبي...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحقيقة بين النسبي والمطلق
"يعيش الإنسان في عالم يحتوي على العديد من الظواهر يجهل ماهيتها وحقيقتها فتعترض وجوده صعوبات جمة وعوائق تعيق تكيفه مع هذه الواقع المجهول وحتى يحقق هذا التأقلم لابد له من أن يرفع الستار عن هذا الغموض وعن ما تحمله الطبيعة من أسرار فيحدث تفاعل بينه وبين المحيط الذي يعيش فيه وبحكم أنه كائن عاقل هذه الطبيعة جعلت ميزة الفضول والرغبة في المعرفة والكشف عن جوهرها متجذرة فيه وهذا ما يفسر سعيه إلى طلب الحكمة وبلوغ الحقيقة وتجدر الإشارة إلى أن الحقيقة كموضوع ومفهوم وردت في بعض التعاريف الفلسفية بأنها الأمر الذي لا يتخلله التناقض ومن ثمة فهو جوهر الشيء ويراها البعض الأخر أنها الأمر الممكن في العقل أو هي مطابقة النتائج للمنطلقات بل هي المنطلقات ذاتها وفي بعض اصطلاحات الفلاسفة هي الكائن الموصوف بالثبات والمطلقية كحقيقة الله والخير ويقابل هذا التعريف الحقيقة الإضافية أو الظاهرة أو النسبية هذه المقابلة بين الحقائق النسبية والمطلقة شكلت محورا أساسيا في كل الفلسفات الكلاسيكية وحتى الحديثة فنتج عن هذا العديد من الدراسات والأبحاث الشائكة التي اهتم بها الإنسان وأعطاها حقها في الدراسة والبحث في أصلها ومعاييرها التي تعددت وتنوعت حسب نزعات الفلاسفة فصبت الواحدة في الطبيعة المطلقة للحقيقة على أساس أنها تتصف بالثبات والكمال والديمومة أما الأخرى فاهتمت بالحقيقة النسبية المتغيرة بحسب المكان والزمان فهي حقيقة تقريبية احتمالية جزئية ومؤقتة على أساس هذا الخلاف الفلسفي ظهر جدال ونقاش بين جمهرة من الفلاسفة حيث يؤكد الرأي الأول أن الحقيقة مطلقة أزلية إلا أن هذا الرأي لم يلقى ترحيبا فلسفيا خاصة عند العلماء مؤكدين أن الحقيقة متغيرة غير ثابتة وتقودنا هاته الاضطرابات إلى سؤال فحواه هل الحقيقة مطلقة أو نسبية؟أو بعبارة أخرى بين الثبات والتغير الكل والجزء أين نجد طبيعة الحقيقة؟
*إن البحث و الحديث عن الطبيعة الحقيقية يقودنا إلى الكشف عن الآراء التي تؤكد و تقر بمطلقاتها كطرح فلسفي يحمل العديد من الأبعاد الفلسفية منها و الوضعية أي العلمية و حتى الصوفية حيث يشير مفهوم الحقيقة الأبدية إلى استحالة دحض مجموعة المعطيات و المبادئ خلال تطور مسيرة المعرفة الإنسانية و يندرج هذا المفهوم في تطورات الإنسان عن الخالق الأزلي و الكون المخلوق و نحو ذلك فالله عز و جل حقيقة أزلية و أبادية لا تقبل الشك و الدحض و البطلان كما تشكل الحقيقة المطلقة قاطعة كلية مع تصورات نسبية فهي خاصة بطبيعة الإله و خلق الكون و الموجودات إذن هي حقائق تتصف بالكمال و الثبات و الديمومة يسعى إليه الباحث و الفيلسوف بواسطة العقل من يبلغ أقصاها فلا حيرة و لا عجب إذا كانت حقيقة الحقائق هي الإنسانية ينشدها الفرد حتى يبلغها فهذا المفهوم للحقيقة المطلقة نجده عند العديد من الفلاسفة المثاليين و الكلاسيكيين و المتصدقين حيث يتبنى هؤلاء المفكرين فكرة أن الحقيقة مطلقة مؤكدين بذلك أنها المبدأ أو الغاية في آن واحد التي إليها الحكماء و أهل الفضول و الذوق فالمطلق يشير إلى ذاته و بذاته و لذاته و من بين الفلاسفة المدعمين لهاته الأفكار الفيلسوف المثالي اليوناني أفلاطون و الذي يؤكد أن الحقيقة مطلقة و أزلية تدرك عن طريق العقل المفارق للعالم المادي حيث ميز أفلاطون بين عالمين عالم المثل و هو عالم ثابت و دائم و خالد و العالم المحسوس متغير و مؤقت و فان و فاسد و الخير الأمم هو الحقائق المطلقة التي توجد في عالم المثل عالم عقلي خالص تكسوه حقائق أزلية بداية بالخير مرور بالجمال ووصولا إلى الرياضيات حيث يقول " أن النفس البشرية لما كانت متصلة بعالم المثل كانت تدرك حقيقة و جوهر الشيء و لما هبطت إلى العالم المادي فقدت ذلك الإدراك " و يقول كذلك " الحقيقة هي المثل " و إلى نفس الرأي يذهب سقراط إلى القول بأن الفيلسوف الحق هو الذي يطلب الموت و يتعلمه ليبلغ الحقيقة المطلقة " فعلى الروح على حد تعبيره الهبوط إلى أعماق نفسها حتى تستنبط الحقائق الكاملة في تلك الأعماق و لا نخل برأي إذا عرضنا على موقف روني ديكارت أبو الفلسفة الحديثة الذي يؤكد و بدرجة كبيرة مطلقة الحقيقة التي لا يمكن أن ترتبط بالواقع الحسي بل هي أفكار قائمة في العقل و مرتبطة بقوانينه و مبادئه الدائمة و الأزلية التي لا يمكن أن تتغير فالعقل أساس لكل معرفة حقيقية لأن أحكامه تتميز بالشمول و الوضوح حيث يتفق " ديكارت سبينوزا " على أن الحقيقة تحمل في طياتها الوضوح و تتطابق مع مبادئ العقل مثل البديهيات الرياضية و انتهى ديكارت من خلال جملة الشك إلى إثبات وجود الأشياء و توصل في مبادئه المشهورة إلى أن التفكير هو أساس الوجود و يستطيع الإنسان التوصل إلى هذه المعارف كلما استعمل عقله و لقد كانت هذه الفكرة المنطلق الضروري الذي اعتمده ديكارت ليبين أساس الحقيقة المتمثل في العقل و من خلالها يبين باقي الحقائق الموجودة و الفكرة ذاتها نجدها عند الرياضيين الكلاسيكيين الذين يحطون الحقيقة بالصدق و اليقين و الثبات و هذا ما نجده في الحقائق الرياضية التي تعرف بأنها روح العلم و علم المفاهيم الكمية المجردة القائمة على أساس الاستنباط العقلي الذي يقتضي التكامل بين المبادئ و النتائج مع العلم أن مبادئ الرياضيات الكلاسيكية المسلمات و البديهيات و التعريفات صادقة صدقا عقليا خاصة إذا كنا نعلم أن أساسها الوضوح و الوضوح مصدره العقل الخطان المتوازيات لا يلتقيان أبدا و الكل أكبر من الجزء فهذه البديهيات واضحة وضوحا عقليا و لا تزال قائمة إلى حد اليوم إضافة إلى هذا فالتعريف الرياضية تعريفات ذهنية عقلية فالدائرة مثلا تعرف على أنها منحنى مغلق جميع نقاطه على بعد متساوي من نقطة واحدة ثابتة و على هذا الأساس فالرياضيات كحقيقة مطلقة في منهجها و معطياتها و مبادئها كانت و ظلت عقلية و ينطبق هذا الطرح مع مذاهب أرسطو حيث أكد أن الحقيقة تكمن في فكرة المحرك الأول الذي يحرك كل شيء و لا يتحرك فهو أبدي و أزلي هو الله الذي يجب أن نؤمن به لأنه الأصل و المبدأ فهو صورة العالم و مبدأ حياته فهذا الطرح يوصلنا إلى فكرة الثبات في الحقائق و الشمول فيدافع عن مطلقية الحقيقة فلاسفة العالم التقليدي كامرسون و بوان كاريه و كلود برنارد حيث يرون أن الطبيعة و أجزائها تخضع لمبدأ الحتمية الطلق الذي يقتضي أنه متى توفرت نفس الشروط أدت حتما إلى نفس النتائج فلكون بأسره يخضع لنظام ثابت لا يقبل و لا الاحتمال يمكن التنبؤ به متى حدثت الشروط التي تحدد الظواهر فالحتمية كقاعدة علمية مطلقة و هذا ما تبناه كلود برنارد بقوله " أنه لا يمكن لأي باحث أن ينكر مبدأ الحتمية المطلق " و كذا ما قاله امرسون أمست دليل على أن المعارف العلمية و يقول في هذا الشأن لو وضعت في موضع اختيار بين التكهن و عدم التكهن اخترت التنبؤ و بتالي الحتمية و على هذا الأساس اعتبر بوان كاريه أن الكون كله يخضع لنظام ثابت و تجسد رأيه هذا في قوله " أن العلم يضع كل شيء موضع الشك إلا الحتمية فلا مجال لشك فيها " و أما الإشارة التي يمكن لحضها جيدا فإنها تتلخص في العقل الإسلامي الذي بدوره يلح على أن الحقائق مطلقة و تتمثل في الحقيقة الذوقية و التي تعرف ذلك الشعور الذي يستولي على المتصوف يستقي علمه من الله عن طريق التجربة الذوقية و التي تتجاوز العقل و المنطق و تتم خارج الحواس فسيتنقل أثرها المتصوف عن نفسه و يستغرق استغراقا مطلقا في ذات الله فتتأتى المعارف مباشرة و تفيض المعرفة اليقينية و هذا لا يحصل إلا بمجاهدة النفس و الغاية من الاتصال بالله هي تحقيق السعادة الكاملة حيث ابن العربي " السعادة تتحقق عند الفلاسفة بمجرد اتصال الحكيم بالله دون اندماجه في الذات اللاهية" و يقول كذلك " من هذب في طاعة جسمه و ملك نفسه ارتقى إلى مقام المقربين فإذا لم يتق فيه من البشرية نصيب حل فيه روح الله في الذي كان في عيسى ابن مريم " و تأصيلا لكل ما سلف ذكره نخلص إلى القول إن الحقيقة المطلقة هي حقائق تتصف بالكمال و الثبات و الديمومة و لكن هل الحقيقة بهذا المفهوم توصلنا إلى المعارف و اليقين ?
*إن ما جاء به زعماء الموقف الأول في اعتبار أن الحقيقة مطلقة يظهر للوهلة الأولى صائب و لكن الانتقادات الكثيرة التي وجهت لهم جعلت رأيهم هذا خاطئ فقد بالغوا كثيرا في إعطاء العقل السلطة المطلقة كمعيار للحقيقة المطلقة متجاهلين أن العقل مثلما يصيب قد يخطئ فالعقلاء أنفسهم يخطئون فالحقيقة التي يتكلم عنها الفلاسفة موجودة ضمن العديد من المذاهب النفعية و العقلية الواقعية و الوجودية إلى هذا التعدد في التفسيرات و في النزاعات أخرج الحقيقة من مطلقيتها إلى جزئيتها و ثباتها التي تغيرها و من الاتفاق إلى التناقض .
*جملة الانتقادات السالفة الذكر تقودنا للحديث عن نوع أخر من الحقيقة التي تدخل بوصفها مصطلحا مطلقا في إمكانات هائلة و طرق متعددة من الصيرورة المستمرة التي لا تعرف الثبات لأنها تكون في حالة إعادة و تعديل مفاهيمها فما كان خيالا بالأمس البعيد أصبح اليوم حقيقة نسبية و ما اراه أنا حقيقة راسخة في معتقدي و ديني قد لا يكون حقيقة خارج إطار هذا المعتقد و ما يعتقد به مجتمع من حقائق قد تبدو لهم ثابتة لا يعتقده مجتمع آخر و ما ترسخ من تصورات علمية قد يتقنه العلم الحديث بدراساته التحليلية و من بين الفلاسفة الذين تبنو هذا المفهوم النسبي للحقيقة زعماء الفلسفة البراغماتية بيرس و ويليام جيمس و جون دوي و زعيم الفلسفة الوجودية جون بول ساتر و فلاسفة العلم الحديث انشتاين ديراك أديسن و هبرنبرغ و غاستون باشلار فقد أكد هؤلاء الفلاسفة أن الحقيقة ذات طابع نسبي متغير قد تأتي هذه المعارف في غالب الأحيان على أنقاض معارف غير حقيقية أخذ بها لسنوات فالحقيقة النسبية متغيرة بحسب الزمان و المكان و اختلاف الأمم و الشعوب و بيان هذا التطرق لبعض أراء الفلاسفة استنادا إلى أنشتاين الذي يرى أن كل الحقائق التي أفرزها العلم تتضمن نسبة من الخطأ جعلتها عرضة للشك و الضن سواء في الرياضيات و في علوم المادة حيث تجد الحقيقة النسبية عند البراغماتيين أمثال بيرس و ويليام جيمس يؤكد كل واحد منهم أنه لا وجود لحقيقة مطلقة و إنما الموجود هو الحقيقة النسبية تختلف من شخص إلى أخر و من زمان إلى آخر و من مكان إلى آخر فالحقيقة تقاس بالتناغم العقلي بين الرغبة و الموجود أي أن الحقائق تكسوها المنفعة حيث يقول ويليام جيمس " إنني أستخدم البراغماتية بمعنى أوسع أعني نظرية خاصة في الصدق " فالصدق و الحقيقة كلمتان مترادفتان الأمر الذي يجعل من الصدق أكيد للنجاح و الكذب أية للفشل فالتنسيق الذي تبناه البراغماتيين واضح المعالم ينطلق من فكرة الواقع العملي (المنفعة) ليحكم على هدف الأفكار و الحقائق و على هذا الأساس فأن المعارف لا يمكن أن تكون مطلقة فهي نسبية بنسبة معيارها و على هذا يقول ويليا جيمس " الحقيقة و المنفعة طرفان لخيط واحد و الحقائق الكلاسيكية كالأسلحة القديمة يعلوها الصدأ و تعد قديمة " و تعزيزا لهذا الموقف فأن تطور الرياضيات من المفهوم الكلاسيكي الذي ينطلق من البديعيات و التعريفات الذي تصدر منا صادقة صدقا عقليا و بالتالي مطلقا جعل هذا المفهوم يتلاشى و يضمحل حيث أن الرياضيات الحديثة أدحضت كل تلك المبادئ الرياضية العقلية و أنجز عن ذلك رياضيات حديثة تمثلت في هندسة لوبا نسيتسكي ورمان ثم إن التطبيقات العملية للرياضيات هي جعلت منها علم نسبي مجرد من أي إطلاق فقد تراجعوا الرياضيين المحدثين عن العديد من المبادئ كالبديهيات التي كانت تحمل مفاهيم اللانهاية. و التعريفات التي طالما أعتقد بأنها معرفة مطلقة و قد عبر رونيه ديكارت نفسه عن إمكانية حدوث هذا التقييم في المفاهيم الرياضية بقوله " من يدري ربما سيأتي بعدي من يثبت لكم بأن مجموع زوايا المثلث لا يساوي 180° " و لعل التطرق للدحض و الرفض الذي واجهه علماء العلم الكلاسيكي من نشأته أن يعجل جعل الحقائق نسبية و أن الطبيعة تخضع لنظام غير ثابت عكسيا ما كان ينتقده علماء النظريات الفيزيائية الكلاسيكية فمع نهاية القرن التاسع عشر و ظهور القرن العشرين و مع ظهور العلم و ظهور الفيزياء الحديثة أصبح الدفاع عن مبدأ الحتمية المطلقة و الذي يقتضي أية من توفرت نفس الشروط أتت إلى نفس النتائج أمر مستحيل ذلك لأن الكون يخضع لمبدأ الحتمية النسبية و منها هذا المبدأ أية قد تتوه و نفس الشروط و لكن لا تؤدي إلى نفس النتائج و هذا ما عبر عنه هيزنبرغ حين قال " إن الطبيعة كثيرا ما تجد نفسها في مفترق الطرق فعليها حساب الاحتمالات " و قال أيضا " إن الوثوق في مبدأ الحتمية أصبح و هما ذلك لأن الطبيعة لا تخضع للنظام الثابت و لا تخضع لقوانين مطلقة و بالتالي الحتمية المطلقة ذلك لأن لا وجود لشروط مطلقة المحدثة للظواهر" و هذا ما جعل ادنشقرن يقول " لقد أصبح الدفاع عن مبدأ الحتمية المطلقة مستحيلا " فالعلم المطلق إذن مجرد مسلمة عقلية لا يمكن البرهنة عليها و بالتالي قد تحتمل الصدق و قد تحتمل الخطأ و هذا ما يمثل الحقيقة النسبية و قد عبر عن هذا اينشتاين حيث نسبية الحقيقة تمثال الرخام المنتصب وسط الصحراء تعصف به الرياح بعواصف الرمال و لا يمكن أن يحافظ على نعامته تتضوء الشمس إلا إذا تدخلت الأيادي النشيطة التي تنفض الغبار عنه باستمرار فالحقائق النسبية تأتي على أنقاض حقائق أخرى سواء تصحيح لأخطائها أو التعديل عنها و لعل ما قاله نفس الباحث أنشطاين أحسن دليل على أن الحقائق تجردت من المطلقة و اتخذت النسبية أساسا لها حيث قال " كلما اقتربت القوانين من الواقع أصبحت غير ثابتة و كلما اقتربت من الثبات أصبحت غير واقعية " إضافة إلى هذا فأن العديد من الباحثين قد تراجعوا عن أرائهم على أساس أن كل الحقائق التي أفرزها العلم تتضمن نسبية عن الخطأ نتركها عرضة للشك و الارتباك في جل العلوم و من بينهم الباحث البيولوجي كلود برنارد حين قال " يجب أن نكون مقتنعين بأننا لا نمتلك العلاقات الضرورية الموجودة بين الأشياء إلا بوجه تقريبي كثيرا أو قليلا و أن النظريات التي نملكها هي أبعد من أن تشل حقائق ثابتة أنها حقائق نسبية جزئية مؤقتة " كما يؤكد الايستمولوجي صاحب نظرية المعرفة غاسنوز أن العلم الحديث في حقيقة الأمر معرفة تقريبية و التطورات الحاصلة فيه هدفنا دائما بلوغ الدقة و اليقين و هذا ما أثبتته في كتابه التحليل الكيميائي للنار حين أقر ان الطبيعة بين المعارف القديمة و الحديثة شرط للموضوعية و نجد الفكرة نفسها عند صاحب الفلسفة الوجودية جون بول سارتر الذي يؤكد أن حقيقة الإنسان هي انجازه لماهيته لأنه في بداية الوجود لا يملك ماهية فهو محكوم عليه ان يختار مصيره فلابد من ممارسة التجربة الذاتية القائمة على الشعور حتى يجمع بين الحياة و الموت إذن الحقيقة تكمن في الجمع بينهما و هجره العقل و الغوص في الذات الشاغرة فالشعور وحده هو مصدر الحقيقة فلا وجود للحقائق إلا تلك التي تشعر بها فالشعور هو نقطة الانطلاقة لكل علم و فن و فلسفة و إذا كان الشعور حالة ذاتية الأمر الذي يجعلنا نقر بأن الحقيقة نسبية كما يمكن سحب هذا الرأي للموقف الإسلامي الذي يدعو الإنسان إلى المستقبل و يدعوه إلى البحث و المعرفة و عدم التسلم بالعرف و التقليد الأعمى الذي لا يستند إلى المعرفة الموضوعية القائمة على معطيات كالنص الديني و الوحي و العقل مصدقا لقوله تعالى " يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون " و نجد هذا الموقف واضحا جليا في قول الفارابي" إن الوقوف على حقائق الأشياء ليس في مقدور البشر و نحن لا نعرف من الأشياء إلى عوارضها " كما أن المتصور لا يستطيع أن يصل إلى درجة الكمال فالحقيقة عند لمعطى ذاتي يختلف باختلاف مقاماتهم فهناك الزاهد العابد العارف فكلها يجمع بينهم هو الاختلاف فأخرجوا الحقيقة من نفوذ المطلقة إلى النسبية و لا نخل بالرأي لو تعرضنا إلى المواقف المختلفة التي يمكن لحظها عند الفلاسفة الكلاسيكيين خاصة في مفهوم الحقيقة فتباينت أرائهم في إعطاء لمفهوم الحقيقة بالرغم من القيم يتفقون حول فكرة المطلقة فالفيلسوف الألماني أفلاطون على أنها كائنات انطوليجية خالدة و يعرفها أرسطو بأنها جوهر يختفي وراء المظهر و بينهما ديكارت يعرفها على أساس الشك ....ومن هذه التعاريف المختلفة ألا بدل هذا على أن الحقيقة في طبيعتها نسبية قابلة للشك جزئية ناقصة .
*المتأمل لهذا الرأي يجد أنهم استند إلى العديد من الأدلة جعلت أفكارهم صادقة و لكنهم مادو كثيرا حين أعطوا السلطة للذات الإنسانية في إدراك الحقائق الإنسانية كالذات الشاعرة و الذات النفعية متجاهلين تماما أن الإنسان ذو أبعاد أخرى اجتماعية و عقلية و حتى سياسية و يزيد هذا الموقف عيبا هو أن جميع الفلاسفة الذين تبنوا فكرة نسبية الحقائق يجمع بينهم التناقض و هذا راجع إلى الاختلاف في المرجعيات و نسق كل فيلسوف
فأين نجد نسبية الحقائق في ظل هذا التباين.
*تحملنا الإشكالية السالفة الذكر إلى ضرورة التأكيد أن الحقيقة كموضوع و مفهوم لاقت أهمية كبيرة في الدراسة نظرا لكثرة الآراء و تباينها بالتحليل الذي قدم في هذه المقالة قد تكون مطلقة أزلية لا تتغير كحقيقة الله و لكن هذا لا يعني أن ننفي نسبيتها ذلك لأن الإنسان محدود القدرات العقلية فلا يستطيع العقل أن يدرك الأشياء إدراكا كليا فالحتمية الآنية هي خطوة نحو الحقيقة اللاحقة بما نلمسه من تغير في المواقف و الاتساق و الأسس في النظريات الفلسفية و حتى العلمية تدعونا إلى التأكيد و بصفة مطلقة أن الحقيقة نسبية فالحقيقة إذا تبدأ مطلقة و تنتهي نسبية و أمام هذا التحليل السابق نستنتج أن الدارس لموضوع الحقيقة يكتسب حقيقة غاية في الموضوع تكمن في ان طبيعتها من بين المواضيع الفلسفية التي احتلت مكانة راقية و سياسية من الدراسات دارت في مجملها حول مفهومها و معاييرها و طبيعيتها و لعل التعرض للآراء السالفة الذكر يجعلنا نجيب دون إطالة و بعبارة جد مركزة و بعبارة لا يتمادى فيها اثنان أنه لابد أن يؤمن بنسبة الحقائق مع تهذيب مطلقيها فالحقائق ذات أصول فلسفية و علمية و رؤى دينية مرتبطة بالواقع العلمي و العلمي الاجتماعي النفسي للإنسان لا تتأتى للفرد إلا إذا وضعها بين النسبي و المطلق .
ــــــــــــــــــ
مقتبس...
فلسفة الحب
لم يعرف المفكرون والفلاسفة قضية أثارت جدالا واختلافا ورؤى متباينة قدر قضية الحب وتعريفاته وكنهه ..
وما هى صوره ..
وما الذى يعنيه الحب العذرى . وهل هناك حب غير عذرى .. ؟
وما هى علاقة الحب بما يتشابه معه من مسميات كالعشق والهوى والاعجاب .. ؟!
ومن المسئول عن انطلاق شرارته .. هل هو القلب أم العقل أم العين أم كل هؤلاء ؟!
فلنبحر قليلا ونناقش ونفهم .. ربما نصل إلى خلاصة فكرية متزنة فى تلك الأمور
أولا ما هو الحب ..؟!
الحب هو الشعور الأسمى للإنسانية ومقياس تحضرها وهو أعم وأشمل من أن يجمعه تفسير أو تحدده مقولة .. وهو أحد الغوامض التى لا مجال لفك قيد غموضها وهذا الغموض هو السبب الواقف خلف عدم القدرة على الخاص منه كبقية العواطف لأنه داء لا وجود لأسبابه ومعرفة السبب هى أول خطوة للعلاج
ومن العبث أن يتم ابتذال كلمة الحب أو تعميمها مع أى شعور أو قصرها على علاقة انسانية محددة فهى تعبير عن شعور لا يشترط لتوافره أن يكون بين ذكر وأنثي كما هو معتاد أو أن تحكمه علاقات اجتماعية ..
فالحب هو ما عجزنا عن تفسيره من المشاعر وهو أكبر من العاطفة ودون العبادة ..
ويتوافر على مستويات تتفق فى المفهوم وتختلف فى درجته من حيث النقاء .. فغاية الحب هى حب العبد لله ورسوله عليه الصلاة والسلام وكذلك لانتمائه للبلد أو العشيرة أو الأهل ثم للتعبير عن العلاقة الانسانية التى تجمع الرجل بالمراة وإن كانت تلك الاخيرة أكثرهن إثارة للجدل من حيث اضمحلال معناها واستخدامه للتعبير عن نوعيات أخرى من العواطف لا توجد علاقة بينها وبين الحب
وهو كما سبق القول غير قابل للتفسير بمعنى أنه شعور وانتماء غير مسبب والوصول إليه يتطلب صفاء روحيا ليس سهلا بل يستعصي على الأعم الأغلب من الناس
فالى تنويهات بسيطة عن الحب وأنواعه لنعرف ظواهره الحقيقية ..
الحب الإلهى قرين الإيمان
أول درجات الحب وأسماها منزلة هى حب الله تعالى وحب رسوله عليه الصلاة والسلام .. وهو الشعور الذى يتطلب لنكتسب مسماه أن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما كما عبر الحديث الشريف فى هذا الصدد عن الإيمان
فالايمان هى الرتبة التى تعلو الاسلام وقد نفاها الرسول عليه الصلاة والسلام عن الذين لا يكون الله ورسوله أحب إليهم ممن سواهم ..
فالإسلام أن تشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله عليه الصلاة والسلام وتسلم بالأوامر والنواهى
أما الايمان ومقره النية حيث الإخلاص غير المكشوف لغير الله تعالى فهو أن تؤمن بالله وملائكته ورسله وبالقضاء والقدر خيره وشره وبالملائكة والحساب والبعث وهو هنا درجة من الحب الإلهى
والإحسان .. أن تعبد الله كأنك تراه .. فإن لم تكن تراه فانه يراك وهذا هو أعمق وأنزه درجة للحب على الاطلاق
وتتزايد رتبة الحب فتصل بالانسان إلى الدرجة الأعلى من الإيمان وهى الإحسان .. تلك المرتبة التى لا تتوافر إلا لقلة قليلة من الصالحين حيث يكون الحب الإلهى هنا متملكا لقلب العبد دونما انتظار لجزاء أو طمعا فى جنة أو خوفا من حساب كما عبر عن ذلك أحد الصالحين بقوله" اللهم انى أحبك لا طمعا فى جنة ولا خوفا من النار .. "
وكما قال الشاعر ..
أحبك حبين حب الهوى ×× وحب لأنك أهل لذاكا
فأما الذى هو حب الهوى ×× فشغلى بحبك عمن سواكا
وأما الذى أنت أهل له ×× فكشفك لى الحجب حتى أراكا
ونخلص من هذا الى أن الحب منزه تماما عن كل غرض وعن أى سبب فى المطلق .. فتوافر المبرر للحب ينفي وصف الحب عن الشعور ويجعله رهنا لعاطفة أخرى تقبل مثل هذا التداخل ..
فالحب عاطفة بالغة النقاء والشفافية لا وجود فيها مطلقا للمبررات أو الفائدة أو المسببات .. وهى بالتالى غير منتهية لهذا السبب
وبالمثل حب الوالدين ..
وليس ضروريا أن يكون الحب من الإبن لوالديه متوافرا حتى يكون العرفان لهما قائما ..
فمن الممكن أن يتوافر العرفان بغير الحب عندما يعامل الإبن أبويه معاملة الأوامر والنواهى من الله سبحانه وتعالى فهو هنا لا يبر بوالديه حبا فيهما بل خوفا من جرم العقوق
وبالمثل فى الصداقة ..
ذلك المفهوم الذى تم ابتذاله بدوره فأصبح مجالا للنفي والانكار وهو أعلى درجات العلاقات الانسانية بعد بر الوالدين فالحب فى الله إن لم يتوافر بين الصديقين فلا مفهوم هنا للصداقة .. ولذك كان الجزاء الأوفي لمن يحب المرء لا يحبه إلا لله وفى الله يكون الجزاء هنا ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله كما أخبرنا الحديث المشرف
الحب بين الرجل والمرأة
كما رأينا أن الحب درجات فى ترتيبه ونفس هذا التقسيم المتدرج يكون فى أنواع الحب ذاتها ..
والحب بين الرجل والمرأة ـ تلك القضية الخلافية ـ له مستويان مثلما رأينا فى الحب الإلهى حيث هناك حب الايمان وهناك أيضا حب الإحسان ..
فبالمثل يوجد فى الحب الطبيعى إن صحت التسمية مرتبتين مماثلتين هما الحب العذرى والحب العادى .. وكل منهما ينسحب عليه نفس خصائص ومميزات الحب كشعور غامض منزه عن الأغراض والاختلاف بينهما اختلاف فى الدرجة فقط ..
والحب العادى هو الحب الذى يكنه الرجل لمحبوبته أو العكس ويجمع فيما بينهما بدون وجود إرادة التملك أو نية الاستغلال أيا كانت ..
ولذا فالمحب الحقيقي لا يعنيه من الزواج مثلا إلا تقنين وتنظيم رؤيته لحبيبته بانتظام ولا يري فيها إلا كائنا شفافا تتغذى روحه برؤيته بعيدا عن أية غريزة بشرية وإذا كان الحب متبادلا فهنا تتواصل قنوات الإحساس بينهما إلى درجة تثير ذهول من حولهما لقدرة كل منهما على الشعور بالآخر كما لو كانا روحان بجسد واحد
ولست أهدف هنا إلى بيان أن شرط الحب أن يكون خاليا من متطلبات الغريزة بل المقصود ألا تكون الغريزة عاملا فى الحب ذاته او موضع اهتمام .. بل تتحول العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة إلى وسيلة تعبير ليس أكثر ولا أقل عندما يجتمعا برباط الزواج وتختلط مشاعر الحب بشيئ من العشق وهو اختلاط طبيعى لا ينتج تناقضا
ولكن يظل للحب نكهته الخاصة للغاية فى أن العلاقة الزوجية هنا تظل دوما أبدا بلا ملل لأنها تتجدد بكل مرة .. وتلامس الكفين بين الحبيبين كافيا لسريان حرارة مشاعرهما بينهما وهو ما يفتقده الزواج التقليدى بطبيعة الحال إن كان خاليا من نزعة العاطفة لأن الغريزة قابلة للتشبع بينما العاطفة لا تتشبع قط .. والغريزة وسيلة فى الحب بينما هى غاية عندما يغيب ..
كما عبر عن ذلك أحد الشعراء ببيتين من أرق ما قرأت قال فيهما
أٌقَبلهُ على جـزعِ ×× كَـشُرْب الطائر الفزعِ
رأى ماءً .. فواقعهُ ×× وخاف عواقب الطمعِ
كما أن الحب هنا لا يعرف أي نوع من الغاية لأنه هو نفسه الغاية .. فغاية المحب أنه أحب وفقط .. ومن هنا تأتى مقاييس الصعوبة التى تجعله نادرا فى زمننا هذا
والحب كشعور لا زيادة فيه أو نقصان والدرجات هنا لا تعد مراحل زيادة أو نقص بل هى أشبه بالأنواع التى لا تتغير مع امتداد العمر فإن وُلِد الحب عذريا من البداية فلا مجال لتحوله إلى غيره والعكس صحيح
وبمعنى أكثر وضوحا .. فالحب كائن يولد بهيئته ويظل عليها
أما الحب العذرى .. فتلك قضية غابت بأهلها منذ زمن بعيد .. وان كانت أثارت القدماء أنفسهم بكل ما عرف عنهم من سمو ورقي فما بالنا نحن .. ؟!
فالحب العذرى كان أساسه كما هو مشهور لقبيلة بنى عذارة التى عُرف عنها انتشار حالاته .. ولو أن الحب العذرى لم يقتصر على تلك القبيلة فقط بل امتد بوصفه إلى مشاهير المحبين عبر التاريخ ممن نـُقلت قصصهم التى أثارت انبهار المحققيين لكتب التراث ولا تزال ..
وهو درجة عليا من السمو العاطفي كانت ترتفع بأصحابها إلى مصاف فريد فى مكانته .. كما رأينا مع بن الملوح الذى نقل عنه قوله " أنه لم يحب ليلي بل أحب الحب فى ليلي "
أو مثل الفتى العراقي الشريف الذى ارتضي لنفسه أن يـُتهم زورا بالسرقة ولا يفضح لقاءه بحبيبته .. وكان هذا فى أيام حكم خالد القسري للعراق .. وكان خالد يشعر ببراءة الفتى فأحب أن يجبره على البوح بالحقيقة لينجيه من حد السرقة ظلما لكن الفتى أبي فى اصرار فأودعه خالد السجن وأمر حراسه أن يتركوه منفردا ويراقبوه خلسة فسمعوه يقول
هددنى خالدٌ بقطع يدى ×× إن لم أبح عنده بقصتها
قلت هيهات أن أبوح بما ×× تضمن القلب من محبتها
قطع يدى بالذى اعترفت به ×× أهون للقلب من فضيحتها
وهذا القول هو مبدأ الحب العذرى الذى لا يكاد صاحبه يعقل صورة صاحبته أو العكس كما رأينا فى قصص وروايات الأصمعى الراوية الشهير والذى أمتعتنا تجاربه التى رواها من أهل عذرة ..
فالحب العذرى يرتفع بكل شيئ فى المحب حتى فى إدراكه لأشياء غير محسوسة وتأثره الخرافي بما ليس موجودا .. !!
كالحبيب الذى مات لأجل مقولة قيلت له بقدوم حبيبه إليه .. والآخر الذى اشتكى للأصمعى ولم يجد له حلا فألقي رأسه ومات وما إلى ذلك من أساطير القصص لا تزال الناس مختلفة حولها وان كانت ليست غريبة على سمو العاطفة..؟؟؟
ــــــــــــــــــــــــ
مفتبس...
الاشتراك في:
التعليقات (Atom)
)/Img/News/225201344158karlp-b.jpg)